القوة الصلبة تحل مكان القوة الناعمة في العلاقات الدولية (2-2)

 

عبيدلي العبيدلي

كثيرة هي الدعوات التي طفت على سطح فضاء الاجتهادات الأمريكية، داعية للعودة إلى "القوة الغليظة"، بعد الفشل الذريع، حسب رأي هؤلاء الدعاة، الذي عانت منه سياسات "القوة الناعمة"، عندما لجأت إليها إدارة باراك أوباما. محور ارتكاز تلك الدعوات التي يطلقها باحثون إستراتيجيون من أمثال الكاتب الأمريكي، وهو مؤرخ وأستاذ الدراسات الإستراتيجية بجامعة جونز هوبكنز، إلى جانب كونه المستشار السابق لوزارة الخارجية الأمريكية في عهد كونداليزا رايس. هو أن "العالم لم يعد كما ينبغي له أن يكون"، ومن ثم، فليس هناك من يمكن له أن يستعيد ذلك سوى الولايات المتحدة، وهي لن تتمكن من ذلك سوى بالعودة إلى سياسية "العصا الغليظة"، وهو العنوان الذي اختاره كوهين لكتابه، ملحوقا بعنوان آخر فرعي يؤكد فيه أن "حدود القوة الناعمة.. حتمية القوة العسكرية".

ويرفُض كوهين ما يحاول أن يروج له البعض من أن العالم اليوم أصبح أكثر سلمية، ومن ثم أمانا. ومن ثم فهو يعتقد في كتابه "أن أشكال القوة الأضعف مثل العقوبات مفيدة ولكنها محدودة في آثارها". ويدافع كوهين عن طروحاته بضرورة اللجوء إلى "العصا الغليظة". ويحدد كوهين أربعة أخطار محدقة بالولايات المتحدة، مهددة السلم العالمي من خلال التحديات التي باتت تضعها القوى التي تقف وراءها، في وجه محاولات واشنطن "نشر السلام العالمي من خلال سياسة العصا الغليظة".

أول العناصر المهددة للسلام العالمي، وتشكل عدوا مباشرا للولايات المتحدة، كما يراها كوهين، هي الصين (الفصل 4) التي لا تألو جهدا من أجل بسط "الهيمنة على جيرانها، ومحاولة إعادة تشكيل النظام الدولي على النحو الذي تراه يخدم مصالحها، ومن ثم فإن دولة خطرة مثل الصين، بحكم حجمها وثروتها وتطلعاتها، هي المنافس الجيوسياسي الكبير للولايات المتحدة". وأن ليس هناك من سبيل آخر أمام الولايات المتحدة لردع بكين سوى اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية إستراتيجياً لموازنة هذا الاتجاه ومنع الصين من الحصول على التفوق العسكري العالمي الذي يبيح لها ذلك". وأفضل "عصا غليظة" يمكن أن ترفعها واشنطن في وجه بكين، هي إقناع هذه الأخيرة بأنها -أي الولايات المتحدة -في وسعها أن "تعيد بناء قراتها العسكرية من خلال بناء ترسانة عسكرية ضخمة، وفي فترة زمنية قصيرة". وهنا لا ينفي كوهين احتمال نشوب حرب بين الدولتين، الذي لا يمكن أن يحول دون نشوبها سوى خشية الصين، بعد أن ترى تضخم حجم القوة العسكرية الأمريكية، أن يكون قرار المواجهة العسكرية ليس الخيار الأسلم.

وفي الفصل الخامس من الكتاب، يفترض كوهين أنَّ الخطر الثاني الذي يهدد الولايات المتحدة، ومن ورائها، حسب رأيه، السلم العالمي. هو ما يصفه بـ"الإرهاب الإسلامي" الذي يطلق عليه كوهين صفة "الجهاديين"، الذين ينضوي تحت لواء "أعمالهم الإرهابية" مجموعة من التنظيمات مثل "تنظيم القاعدة"، و"الدولة الإسلامية" و"حركة الشباب" و"بوكو حرام". ويحذر كوهين في كتابه من أن الحرب مع هذه التنظيمات "ستستمر لعقود من الزمن وتتطلب عمليات قتل مستهدفة متواصلة، وربما تحتاج إلى تدخلات عسكرية واسعة النطاق لمحاربة الجماعات الإرهابية". ثم يدعو كوهين واشنطن إلى مواصلة "القبض على قادة الإرهاب وسجنهم في منشأة خليج غوانتانامو، التي ينبغي، في رأيه، أن تظل مفتوحة". ويرى كوهين أنَّ تحديات "القوة الغليظة" التي يطرحها صراع أمريكا مع مختلف تلك الحركات "هي في كثير من الأحيان الوجه الاَخر للتحديات التي تواجهها الولايات المتحدة مع الصين الصاعدة".

وفي الفصل السادس من الكتاب، يحصر كوهين التهديد الثالث فيمن يطلق عليهم وصف "الدول الخطرة"، وهي "روسيا وإيران وكوريا الشمالية". ويعتبر "التهديد الذي تمثله كل من هذه الدول، هو خطر إقليمي وبالتالي يتطلب ردودًا إقليمية، مضيفا أنه على وجه التحديد، يجب أن يهدف استخدام القوة الصلبة في هذه الحالات إلى ردع المغامرات العسكرية من قبل حكومات هذه الدول وطمأنة الحلفاء في المناطق المعنية. تتطلب القوة الصلبة القدرة على استخدام القوة التقليدية والعمليات السرية والحروب بالوكالة الفعالة. علاوة على ذلك، قد يتطلب الأمر من الحكومة الأمريكية الانخراط في استخدام القوة الوقائية لمنع إيران وكوريا الشمالية من الحصول على أسلحة نووية".

وفي تحديده للتهديد الرابع، ينتقل كوهين في الفصل السابع من الكتاب من الكرة الأرضية بمساحاتها الشاسعة، كي يحط رحاله في الفضاء التخيلي الذي يرى فيه ساحة الصدام المقبلة لحرب لم يجد ضرورة تحديد معالمها، بل وحتى آفاقها، نظرا لكون تلك المساحات الافتراضية غير خاضعة لأية دولة في حد ذاتها. ويرى "أن أمر الاستعداد لمواجهة التحديات في هذا الفضاء الافتراضي الواسع يتطلب أموالا طائلا، ومراحل طويلة زمنيا، يقتضي التزاما من جانب الحكومات لتي ستقف مع الولايات المتحدة لفرض السلام الذي يبحث عنه كوهين، الذي يؤكد على "المفهوم الأوسع للفضاء الحر والمشاعات غير الخاضعة للرقابة. فالمناطق الواسعة، الواقعية منها والافتراضية على حدٍّ سواء، لا تخضع لسيادة أي دولة أو دولة طامحة، لكنها يجب أن تلعب دورًا كبيرًا في السياسة العسكرية للولايات المتحدة.

مثل هذه الدعوات التي يطلقها كوهين، باتت تجد صدى لها في أروقة البيت الأبيض، ودهاليز السياسة الخارجية الأمريكية، ومن ثم فهناك احتمال قوي، خاصة في حال إعادة ترشح الرئيس الأمريكي الحالي ترامب نفسه مرة أخرى للرئاسة، واحتمالات نجاحه لا تزال عالية، هو أمر لا نملك نحن العرب، أي قوة من شأنها أن تؤثر على مساره. ومن ثم يبرز سؤال كبير في وجه دوائر صنع القرار في البلاد العربية: ماذا ستكون ردة فعلنا، إذ لا نملك قول سياساتنا، فيما لو نالت دعوات كوهين، وأخرى كثيرة مثلها تحتضنها دراسات صادرة عن مراكز بحوث لها كلمتها في صنع قرارات السياسة الخارجية الأمريكية، حظها من النجاح؟

لم يكُن العرب على أهبة الاستعداد للاستفادة من سياسة "القوة الناعمة"، التي سادت خلال حكم إدارة أوباما، ومن ثم حصد نتائجها، وجيرها لصالحه دول أخرى مثل الكيان الصهيوني، وإيران، بل وحتى تركيا.

فهل يعيد التاريخ نفسه، لكن هذه المرة، وفي مرحلة "العصا الغليظة" بشكل كارثي، بعد أن كانت النتائج ساخرة في مرحلة "العصا الناعمة"؟