سلطنة عُمان.. القوة الناعمة

 

د. محمد العاصمي

ظهر مصطلح القوة الناعمة لأول مرّة في كتاب عالم السياسة وعميد كلية كينيدي الحكومية بجامعة هارفرد سابقًا جوزيف ناي في العام 1990م، هذا الكتاب بعنوان الطبيعة المُتغيرة للسياسة الأمريكية حيث عرّفها بأنها "قوة الجاذبية والتي تعني بأن تكون جذابًا بالنسبة للآخرين، لا أن تضعهم في صفك وبجانبك بواسطة الإكراه واستخدام السلاح، أو بدفع الأموال".

لم يعر العالم السياسي هذا المصطلح الكثير من الاهتمام، بل على العكس فقد نشبت حروب متعددة منذ ذلك الوقت وقامت صراعات دولية تعد من أكبر الصراعات على مر التاريخ الحديث، وكل ذلك من أجل استعراض القوة العسكرية والسياسية وأخذ الريادة في سبيل السيطرة على القرار السياسي والتحكم في مصير العالم وبالتالي الوصول للهدف الأسمى هو خيرات وموارد الدول، وهذا هو الشكل الجديد للإمبريالية في هذا العصر.

لقد أدرك المغفور له السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- أن القوة لا تكمن فقط في امتلاك جيش قوي مجهّز بأحدث الأسلحة والعتاد وإنما هناك تأثير يمكن خلقه من خلال فلسفة مختلفة تنطلق من مبادئ ثابتة، لذلك قامت السياسة العمانية على مبدأ التسامح وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، ومد يد الصداقة لجميع دول العالم، وانتهاج السلام كخيار أساسي للتعايش بين دول العالم واتباع الطرق السلمية في حل النزاعات الدولية.

هذه المبادئ والثوابت والقيم والثبات عليها جعل من سلطنة عُمان ذات مكانة مرموقة بين دول العالم وجعلت منها وسيطًا مثاليًا في عمليات السلام التي تقدم عليها الدول المتنازعة، ولعبت سلطنة عمان هذا الدور بكل اقتدار وكفاءة ومثلت ثقلًا سياسيًا في المنطقة جعلتها تكسب احترام العالم اجمع دون استثناء، وقد ساهمت سلطنة عُمان فى نزع فتيل عديد الأزمات وربما أهمها ملف الصراع الأمريكي الإيراني والملف النووي، وجنبت المنطقة حروبًا كادت أن تعصف بها.

وعلى نفس النهج سار حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- أعزه الله- الذي قام بخطوات كبيرة في هذا الملف ولذلك نشاهد حاليًا انعكاس هذه السياسة على النمو الاقتصادي الذي تشهده البلاد وقيام العديد من الدول عبر شركات باستثمارات كبيرة في سلطنة عمان.

إن القوة الناعمة التي اكتسبتها سلطنة عمان وامنت بها منذ البداية أخذت زمنًا طويلًا لتظهر نتائجها، ومن أجل الوصول إلى هذه اللحظة تحمل العماني الكثير من الهجوم والاتهامات بالانعزال عن العالم والانطواء والانكفاء على الذات، واعتبر الكثيرين سلطنة عمان بأنها تعيش على الهامش السياسي، غير مدركين الفلسفة والمبادئ والقيم التي أراد سلاطين هذا الوطن إكسابها لكل من يعيش على هذه الأرض الطيبة، ولذلك قلما تجد عماني يتدخل في شؤون الدول الأخرى ولم يسجل التاريخ خروج إرهابي واحد من هذا البلد لينضم للتنظيمات الإرهابية التي انتشرت في المنطقة.

لم تتشكل القوة الناعمة العمانية من المجال السياسي فقط؛ بل إنها تعددت في أشكالها وساهمت عدة مجالات في تشكيلها كالثقاقة والرياضة والاقتصاد، وفرض العماني حضوره من خلال القدرة على تحقيق مكاسب متعددة في جميع المحافل التي ينشط فيها، وقد تجلت هذه القوة في موقف سلطنة عمان من القضية الفلسطينية وما قدمته من مساهمات واضحة في هذا الملف.

ومن خلال معايشتي لكثير من الفعاليات التي مثلت فيها سلطنة عمان خارجيًا وجدت أن هذا التأثير حاضرًا وبقوة، فالعماني يحظى بالثقة والقبول في مختلف المنظمات والهيئات والمؤسسات الدولية والإقليمية، وتواجده فيها يكوّن بإجماع المنتمين إليها دون تردد أو معارضة؛ بل يكاد يكون إجماعا تاما على أهمية وجود سلطنة عمان في مقاعد هذه المنظمات.

لقد وجدنا أريحية وسهولة كبيرة في الوصول إلى مقاعد العديد من المنظمات بفضل مكاسب السياسة العمانية ونهجها القويم والتي شكلت قوتها الناعمة، وهذا الفضل يعود بعد الله تعالى لحكمة قادة هذا الوطن الذين آمنوا بأن رسالة الإسلام تنطلق من السلام والتعايش والتسامح، وأن السلام خيار الأقوياء، وأن ما يمكن الحصول عليه بالحكمة أكبر من مكاسب القوة التي تزول بزوال هذه القوة.

نحن اليوم ووسط ما يدور من أحداث وصراعات وتجاذبات سياسية علينا أن نحافظ على عوامل قوتنا الناعمة وأن نعززها؛ وذلك لكي نستمر في قيادة المنطقة نحو مستقبل خالي من الصراعات السياسية والنزاعات الدولية ينعم فيه الإنسان بالأمن والأمان والاستقرار.

تعليق عبر الفيس بوك