أزمة الأمة وسبل الخروج منها (2-2)

 

عبيدلي العبيدلي

وعلى المستوى المجتمعي، بات المواطن العربي يلمس التراجع الذي باتت تعاني منه منظمات المجتمع العربي، دون أي استثناء، اللهم إلا ذلك البصيص من الأمل الذي يشع بصعوبة من تونس. هذا التراجع، الذي يعبر في صلبه عن الأزمة التي نتحدث عنها، لم يعد محصورا في نقص عدد تأسيس، وإنشاء مثل تلك المنظمات، التي لا يمكن لمجتمع يسعى لتجاوز أزمته أن يتغافل عنه، فحسب، بل تجاوز ذلك كي يصل إلى التدهور الملموس في أداء تلك المنظمات القائمة منها، والتي تملك رصيدا تاريخيا مضيئا عند تقويم أنشطتها التي أعقبت تأسيسها. ولعل المثال الأسطع في هذا القطاع، هو تلك الهزائم المتكررة، التي تعبر في صلبها عن أزمة، التي عرفتها الحركة النقابية العربية، سواء في شقها العمالي، أو قطاعها الطلابي. حيث باتت تعاني اليوم، من تهميش ممنهج شل حركتها، وأبعدها عن الطريق الصحيح الذي عرفته، والدور المضيء الذي مارسته، في الخمسينات والستينات من القرن العشرين.

يتلاحق ذلك، وعلى نحو سلبي قاتل، مع التشظي الاجتماعي الذي بات ينخر الجسد العربي، معبرا في جوهره عن أزمة حقيقية، تنعكس في شكل تنامي الصراعات الطائفية التي تطورت حتى بلغت الصدامات العسكرية، والتناحرات الفئوية، التي فشلت كل محاولات التغطية التي حاول العديد من الزعامات السياسية التي قادت تلك التجمعات الطائفية، في تمويهها، أو تحسين صورتها. ومن ثم تهاوت دفاعاته التي توهم أنها ستموه القناعات الطائفية التي تنخر جسد وفكر تلك القيادات المريضة سياسيا.

وعلى المستوى السياسي، تقزمت المشروعات القومية التي انغرست أنويتها الأولى في مطلع القرن العشرين، قبل أن تعرف عصرها الذهبي في منتصف الستينيات، وأطلقت على امتداد ما يزيد من القرن على تأسيسها مجموعة من المشروعات القومية، لم يكتب لمعظمها النجاح، بفضل مجموعة من العوامل الذاتية مثل القصور في تشخيص العوامل الداخلية التي تساعد على تجسيد تلك المشروعات الوحدوية على أرض الواقع، وأخرى موضوعية كرسها التدخل الأجنبي/الدولي المباشر وغير المباشر لإجهاض تلك المشروعات في المراحل المبكرة من حياتها.

وتوسَّعت دائرة النظرة السياسية العربية، قبل أن تقهرها العوامل التي زرعت عناصر الأزمة التي ما زلنا نعيش ذيولها، فقادت مصر الناصرية مشروعات من مستوى تأسيس كتلة عدم الانحياز، التي حاولت أن تشق طريقها وسط دهاليز الحرب الباردة التي كانت مشتعلة حينها بين المعسكر السوفياتي بزعامة روسيا، والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي خضم ذلك التقهقر السياسي الذي قاد إلى الأزمة العربية المعاصرة، وتعبيرا عن بداياته، جاء الغزو الصهيوني لأرض فلسطين، وما تلاه من استيطان للحركة الصهيونية في أراض تم اغتصابها، واقتلاع شعب من جذوره. ولم تقف أطماع الحركة الصهيونية عند ما استولت عليه في العالم 1948، بل واصلت مشروعاتها التوسعية، ولم تكف عن شن حروبها المتكررة التي مكنتها من ابتلاع المزيد من الأراضي العربية التي تكرس حلمها الهادف إلى بناء دولتها الغاشمة الممتدة من النيل إلى الفرات.

وقزمت الأزمة من أحلام المشروع العرب الذي تقوقع، فلم يعد يتمتع بنظرته العروبية، بل نشبت الأزمة أنيابها في فكره الذي تراجع سياسيا، وتراجعت معه مشروعاته الوحدوية لتأسر نفسها في خطط هي أقرب إلى بناء الكانتونات العرقية، أو الطائفية منها تلك التي تؤسس لبناء الدولة القومية أو حتى الوطنية. وعرفت تلك المشروعات، التي لم تعد عربية، الأرض الخصبة التي تحتاجها لوأد الحركة القومية، وأسرها في نطاقات ضيقة غير قابلة للحياة.

عبرت عن جوهر تلك الأزمة السياسية، مجموعة التشظيات السياسية التمزيقية التي لم يسلم منها أي من مكونات العمل السياسي العربي، الأممية منها، والقومية بل وحتى الإسلامية.

أزاء هذه الأزمة العربية، لم يعد أمام قادة العرب -سياسيين كانوا أولئك القادة أو مفكرين- من سبيل للخروج من تلك الأزمة سوى خيار واحد، بغض النظر عن تعدد سيناريوهات تنفيذه، وهو الاعتراف بتلك الأزمة، وتشخيص عناصرها بشكل علمي، وصريح مع الذات.

مثل هذا التشخيص، عليه أن يتجرد من كل العواطف والأوهام التي سيطرت على فكر وسلوك تلك القيادات، وأسهمت في غرس بذور تلك الأزمة، وعجزت عن الوقوف في وجه ما أفرزته من حقائق على أرض الواقع، ساهمت في إيصالنا نحن العرب إلى ما وصلنا إليه.

ونقطة الانطلاق الأولى، مطالبة إن هي أرادت أن تصل إلى المخرجات الصحيحة التي تنتشل الواقع العربي من أزمته الممسكة بتلابيبه، تحدي الكثير من تلك المقولات التي تحولت إلى ما يشبه المسلمات التي تسيطر على مكونات الفكر السياسي العربي، وفي مقدمة تلك المقولات، الإجابة عن ذلك التساؤل الذي يبدأ: هل هناك مقومات تاريخية وسياسية، بل وحتى عرقية تثبت وجود ما أصبح يعرف اليوم، فكريا، بالأمة العربية، وسياسيا بـ"العالم العربي"؟ وهل هناك مرحلة تاريخية معينة كرست مثل هذا الوجود؟

الإجابة العلمية الصحيحة، التي يمكن أن تقودنا للخروج من هذه الأزمة، ينبغي لها أن تكون بعيدة عن:

الوقوع في أسر أي من المسلمات السائدة التي تلوك بشكل ببغاوي مقولة أن العرب أمة واحدة، وليس أمامهم من خيار سوى العمل من أجل مشروع وحدوي يضم، بوعي أو بدون وعي، بشكل اختياري، أو إجباري تحت مظلة ذلك الكيان الوحدوي العربي، ما يعرف باسم "العرب"، ويحارب كل من يحاول أن يعيش خارجه، كونه يضع نفسه خارج إطار السيرورة التاريخية العربية.

اللهث وراء مقولات، تقترب من الأحلام الرومانسية البعيدة عن أرض الواقع، وغير القابلة للتطبيق، وعلى وجه الخصوص في ظل الثورات التغييرية التي عصفت بالعالم، والأمم، وفي القلب منه العرب.

التوقف عن النقل الأعمى، القريب من السذاجة الفكرية والسياسية، لتجارب أخرى، غير عربية، حققت نجاحات قومية، في ظروف تاريخية مختلفة عن تلك القائمة في المنطقة العربية، ساعدت على التأسيس للدولة القومية.

البحث عن نماذج جديدة مبتكرة، قابلة للتنفيذ، وقادرة، في آن، على وقف تنامي الأزمة التي تعاني منها البلاد العربية، وفي وسعها الوصول إلى المعادلة المنطقية الصحيحة التي تنتشل المنطقة العربية من أزمتها الحالية، وتضع بين أيدي صناع القرار في البلدان العربية المختلفة قانون المعادلة السليمة التي تضعهم على أول خطوات طريق الحد من تفاقم الأزمة من أجل الخروج منها، وصولا إلى الصيغة الصحيحة التي تحولهم إلى قوة سياسية، واقتصادية، بل وحتى عسكرية، لها مكانتها التي تستحقها في خارطة العلاقات الدولية.