رياح إقليمية "سارقة"

محمد علي العوض

ما إن حطَّت طائرة "طه عُثمان" على مدرج مطار الخرطوم حتى بدأ المعتصمون أمام مقر الجيش السوداني التململ والتخوف من هبوب رياح إقليمية عاتية من شأنها أن تعصف بثورة ديسمبر المجيدة؛ لاسيما أنّ "طه" الملقب بـ "ظل" البشير جاء بمعية وفد إماراتي رفيع المستوى.

فالرجل الذي كان يوماً ما مديرًا لمكتب "البشير" والحامل للجنسية السعودية – بقرار ملكي- والمستشار بالديوان الملكي للشؤون الإفريقية خرج من السودان قبل عامين إثر اتهامات له بالسعي لضرب العلاقة بين السودان وقطر؛ وتسريب معلومات ووثائق ارتكزت عليها السعودية والإمارات في اتهامهما لقطر بدعم الإرهاب.

تأكّدت توجسّات الثوار بعد المُقابلة التي أجراها طه مع نائب رئيس المجلس العسكري السوداني "حميدتي" الذي تربطه به علاقات قديمة، بجانب علاقته الجيدة أيضًا بعبد الفتاح البرهان رئيس المجلس العسكري الانتقالي، الذي كان مشرفاً عاماً على القوات السودانية في اليمن، والتي تتكون من عناصر يتبع أغلبها لقوات الدعم السريع وقائدها "حميدتي".. حيث تدور أقوال حول أنّ طه هو مهندس إرسال القوات السودانية إلى اليمن للمشاركة في صفوف التحالف الذي تقوده السعودية.

ثناءات "البرهان" على الدول المساندة للوضع العسكري الجديد في السودان؛ السعودية والإمارات ومصر لما قدمته من دعم مالي للسودان أكدت للثوار المعتصمين أنّ السعودية وحليفتيها الإمارات ومصر تسعى للتدخل في الأحداث الجارية بالخرطوم، وتجييرها لما يخدم أجندتها الإقليمية والاقتصادية في المنطقة لاسيّما القضايا الشائكة في المنطقة كالمعضلة اليمنية، والصراع على موانئ البحر الأحمر، ومحاولة ترسيخ قدم السودان أكثر في محور السعودية عبر سحبه من المحور القطري التركي. والأهم من ذلك كله تنصيب نظام عسكري في السودان مناوئ لحركة الإخوان المُسلمين؛ ولعل هذه النقطة تفسر تخلي السعودية والإمارات عن "البشير" في أزمته الاقتصادية الأخيرة بامتناعهما عن مد يد العون والدعم، فالتجاذبات الإقليمية وحالة السيولة السياسية هي ما دفعتها للتعامل مع البشير وحزبه المتدثر بشعار الإسلام السياسي عملاً بمقولة "مجبر أخاك لا بطل" وينطبق الأمر أيضاً على أمريكا والاتحاد الأوربي؛ بتعاطيهم مع نظام البشير للاستفادة منه في مُكافحة الهجرة غير الشرعية والتعاون المعلوماتي ومكافحة الحركات الإرهابية ذات الصبغة الدينية كجيش الرب في أوغندا -مثلا- أو جهاديين مطلوبين للعدالة.

المجلس العسكري بدوره التقط رسالة محور السعودية، وتساهلات الاتحاد الأوربي والإفريقي الذي بدأ محذرًا قبل أن يسكت ويدرس اقتراح منح المجلس فترة شهرين حتى يتم تسليم السلطة لحكومة مدنية انتقالية..

بالطبع ريبة المعتصمين وشكوكهم بأنّ ثمة محاولات جارية لسرقة ثورتهم لها ما يبررها استنادًا إلى وقائع تاريخية واضحة تكشف ضلوع عواصم خليجية في إجهاض الثورة المصرية، فضلاً عن دورها في صب مزيد من الزيت على نار الفوضى الليبية السائدة الآن، بجانب محاولات النيل من الثورة التونسية.

حالة الرفض هذه يشير إليها ما تمَّ تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تظهر صور عدة شباب في موقع الاعتصام وهم يرفعون لافتات كتب عليها بالخط العريض "لا للتدخل الإماراتي السعودي والمصري" "لا للدعم من السعودية والإمارات" بجانب صور أخرى تقول "تحيا مصر ويسقط السيسي" وأخرى طريفة تمَّ رفعها أمام السفارة المصرية بالخرطوم وكتب عليها "يا السيسي الحشري خليك في الكشري" في إشارة إلى وجوب اهتمامه بشؤون بلده الداخلية.

ما يطمئن أكثر أنّ قوى المعارضة السودانية المعتصمة لحين تحقق جميع مطالب الثورة؛ واعية تماماً بما حاق بالربيع العربي من أخطاء؛ فقد حذرت بأنّ ما يُراد للثورة السودانية شبيه بما تمّ في مصر، حين تمّ رهن التحسّن الاقتصادي بوصول حُكامٍ لا علاقة لهم بالتغيير الذي تحلم به الشعوب؛ بل بأجندة خارجية ورياح إقليمية آتية من الشرق اختطفت ثورات الشعوب العربية بقوة المال والإعلام؛ فقناة العربية/ الحدث -مثلا- بعد أن ساهمت -مشكورة- في تعريف العالم بالثورة السودانية ومُتابعتها أولا بأول باتت الآن تُسبح بحمد أجندة دولتها ومحاولة تلميع وتمجيد المجلس العسكري وغمز قوى الحرية والتغيير بشيء من التشكيك والشيطنة، وتصويرها على أنّها تصر على وضع البغلة في الإبريق.

المجلس العسكري الانتقالي -المُحددة مدته بعامين- الآن يمارس مماطلة تسليم الحكم لسلطة مدنية ويصر على وجود نسبة أكبر للعسكريين في مجلس السيادة المقرر تكوينه لإدارة البلاد، كما يتصنع الحجج والتشكيك في شرعية قوى الحرية والتغيير بتمثيل الشارع السوداني من أجل كسب مزيد من الوقت والتكريس لسلطة مسنودة بقوى إقليمية لها مصلحة في بقائه بصلاحيات أكبر من المدنيين؛ وأن يكون المتحكم الأقوى في البلاد لا الساسة أو المدنيين، وهذا يتناقض تمامًا مع صلاحياته ومهامه المحصورة في الأمن والدفاع عن الوطن مثله وكل جيوش العالم؛ فليس هناك منطق في استبدال نظام عسكري أحادي بنظام عسكري آخر. على المجلس العسكري أن يصرف جلّ همّه مع المجلس السيادي المقرر تكوينه في حل الأزمة الاقتصادية الطاحنة، والوصول لتسويات سلمية مع الحركات المسلحة والقضاء على مسببات الحرب وغرس ثقافة وقيم السلام في ربوع الوطن، وعدم القفز على أكتاف الثورة أو الاستئثار بالسلطة، والابتعاد عن مضار سياسة المحاور الخارجية بالوقوف على مسافةٍ واحدة من المُجتمع الدولي؛ مع إدراك السودانيين التام بأنّهم لا يعيشون في كوكب معزول عن القضايا الإقليمية من حولهم فبطبيعة الحال يتأثرون بما يدور حولهم في العالم، فهم يرحبون بكل قوى إقليمية تساند مطالب الشعب السوداني الذي أنجز ثورة سودانية خالصة، ومن يريد مساعدة الشعب السوداني فعليه ألا يرهن مساعدته بمن وأذى صراع المحاور.

ليس دقيقًا ما يُشاع حول أنّ سقوط البشير سيجعل السودان فريسة سهلة أمام القوى الإقليمية أو أنّ الرئيس المعزول ترك وضعاً معقداً في السودان فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية؛ فراعي الضأن في الخلاء يُدرك أنّ البشير كجنرال مظلي كان يمارس لعبة القفز فوق كل الحبال، وجَعل المواقف السودانية عُرضة للبيع في سوق المحاور الإقليمية؛ وذلك لتعويض فشله وعجز حزبه عن إدارة دولة غنية بالموارد بسبب الفساد وتعطيل عجلة الإنتاج.

الصبح قريب والشعب السوداني قادر على حراسة ثورته من السرقة؛ وخطّ تاريخ مُختلف متقاطع مع كل ما سبق من أنظمة حكم استبدادية، ولن يسمح بصنع وثن ديكتاتوري آخر حتى لو تجمل بالمساحيق وتشدق بعبارات الوطنيّة أو خرج يومًا في ثياب الواعظين.