أمريكا وطالبان.. الاتفاق الضرورة أم ضرورة الاتفاق؟

علي بن مسعود المعشني

 

طالبان الأفغانية.. حركة إسلامية "سُنية" سياسية مُسلَّحة مُتطرِّفة، يعتقد قياداتها أنهم يطبِّقون الشريعة الإسلامية. نشأت عام 1994م، وحكمت أجزاءً كبيرة من أفغانستان، وسيطرت على العاصمة الأفغانية كابول في 27 سبتمبر 1996م، وقد أعلنت قيام الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وأميرها الحالي هو هيبة الله أخوند زاده.

حركة طالبان أنشِئت من قِبل دوائر استخبارات دولية وإقليمية كضرورة مُلحَّة للقضاء على جذوة "الجهاد" في أفغانستان، والذي رغم صناعته الغربية الصِّرفة، وتجييش عموم المسلمين لتقبُّله كجهاد إسلامي، وركن غائب للقضاء على الوجود السوفييتي بأفغانستان، خدمة للأجندة الغربية في المنطقة، إلا أنَّ ذلك الجهاد الآني المصنوع سَرَت مفاعيله القوية في المحيط الأفغاني، خاصة لدى الشعوب المسلمة في الجمهوريات السوفييتية، والعائدة إلى رحاب الإسلام من عباءة الشيوعية، إضافة إلى أثر ذلك الجهاد في عقول عدد لا يُستهان بهم من جموع ما عُرِفوا بالعرب الأفغان، والذين حَمل بعضهم فكرة إحياء الجهاد كفريضة غائبة في عدد من الجغرافيات في العالم، خاصة وأنهم كانوا تحت نشوة النصر المؤزر في أفغانستان.

وكان أخطر تعبير عن مرحلة ما بعد أفغانستان على لسان "شيخ المجاهدين"، ورمزهم الدكتور عبدالله عزام القادم من غزة، والذي صرَّح بأنَّ الجهاد القادم سيكون على أرض فلسطين، فتم تفخيخ سيارته في بيشاور، واغتيل، واغتيل معه حلمه ونداؤه. كانت الدوائر التي صنعت الجهاد الإسلامي بأفغانستان قد أعدت الخطة (ب)؛ والمتمثلة في التحسُّب لإخماد جذوة المد الإسلامي للمحيط الجغرافي لأفغانستان؛ كي لا يشكل ظاهرة إسلامية يمتد خطرها إلى مصالح الغرب، بل وإلى القوى والجغرافيات المحيطة بأفغانستان كروسيا الاتحادية والصين والهند، بل وباكستان كذلك، إضافة لخطورة استشراء وتمدُّد "الجهاد" الإسلامي وإحيائه كركن غائب على جملة لا تُحصى من الأقطار في جغرافيات واسعة من العالم.

صُنعت حركة طالبان بعناية فائقة، وهُيأت لها كل أسباب الانتشار والقوة، والتأثير، وحملت اسمًا مُحبَّبًا للوجدان الروحي الأفغاني وغير مُستفز لأحد، وهو "طالبان" أي طلاب العلم الشرعي، وأختِير لها الوقت المثالي للظهور وهو وقت  اقتتال رموز "الجهاد" الأفغاني على غنائم ومكاسب النصر من نفوذ وثروات ومناصب؛ الأمر الذي أفقد بلدهم الفقير والمنهك أصلًا ما تبقى من مناعته ومكاسبه وأمنه وهدد استقراره. وهنا كان دخول طالبان كالمُخلِّص للشعب الأفغاني من معاناة اقتتال شركاء الأمس وخصوم اليوم، فوجدوا الحاضن الشعبي الكبير، الذي تعاطف معهم وأيَّدهم ودعَّم مسعاهم.

كانت المهام الرئيسة لحركة طالبان هي إعادة إنتاج إسلام ضد الإسلام، إسلام ظلامي متخلف بداخل أفغانستان، يُطفئ جذوة الإسلام الحقيقي المُشع عليها وعلى جوارها، إسلام غريب على الناس يُنفِّرهم من الإسلام بسماحته ورسالته العالمية وعمق مقاصده، ويفرغ الشباب من نزعة الجهاد الحقيقي، إسلام رحيم على الأعداء وفظ على المسلمين. إسلام ينكأ جِراح المسلمين الأفغان المتعطشين لإسلامهم الفطري السمح بعد عقود عجاف من تغريب وعلمانية الملك ظاهر شاة وشيوعية نجيب الله.

"الجهاد" الأطلسي بأفغانستان كان فاتِحة الحروب الدينية في المنطقة وأول تطبيق عملي لنظرية بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في عهد الرئيس كارتر (الحروب الدينية)، وحين انتهى دور الجهاد الأمريكي ونجح، لم يكن من المعقول أو المقبول القضاء عليه بشيوعية أو ليبرالية؛ حيث وقع الخيار على طالبان لتقضم بفكرها المتحلِّل أطرافَ الإسلام الأفغاني الحنفي، وتبدد نشوة الجهاد، واللذين لم يكونا سوى طُعم ووصفات مؤقتة ولمهمة بعينها فقط لا غير. كما أنيط بحركة طالبان حصار إيران والالتفاف عليها من الغرب لتهديد أمنها القومي، وتشكيل قاعدة متقدمة للغرب في الوقت المناسب لمواجهة إيران؛ لهذا استفتحت حركة طالبان سقوط كابول بيدها باقتحام السفارة الإيرانية بكابول -دون غيرها من البعثات الدبلوماسية- وذبح جميع الدبلوماسيين الإيرانيين العاملين بها، كدلالة على تفانيها واستيعابها للمخطط والمهمة والوظيفة الموكولة لها.

وانتهت وظيفة طالبان بانتهاء مهمتها رسميًّا عام 2001م، وكان لابد للغرب من إنتاج حليف جديد ولمهام جديدة؛ حيث استغلت أمريكا أحداث سبتمبر للهجوم على أفغانستان وكذريعة لاحتلالها وللقضاء على طالبان؛ الأمر الذي دفع طالبان لانتهاج عدد من المكروهات السياسية والدينية؛ ومنها: التحالف السري مع إيران، والسماح للأهالي بزراعة القنب مجددًا بعد سنوات من محاربته والمعاقبة على زراعته، كما خففت الحركة كثيرًا من هوسها في تطبيق فهمها للشريعة والحدود الشرعية لكسب المواطنين نحوها، وأعادت إنتاج نفسها مجددًا.

لا شكَّ أنَّ نجاح حركة طالبان في إعادة إنتاج نفسها وفق مُقتضيات الواقع وبحثها الجاد عن جميع مفاصل القوة من حولها، والتي ستمكِّنها من إعادة التموضع في النسيج السياسي الأفغاني وتجاوزها للمحرمات الفكرية والسياسية التي حملتها في مراحل نشأتها الأولى لمواجهة مصير الفناء، لاشك أنها قد أرهقت الغرب وأربكت مُخططاته وجعلته يخضع مؤخرًا إلى منطق إكراهات الواقع والقبول بطالبان كشريك حيوي في الشأن الأفغاني، بعد أن عجزت أمريكا عن هزيمة أو تطويع الحركة أو خلق بديل حيوي وقوي لها من النسيج السياسي الأفغاني.

لا شكَّ أنَّ الاتفاق الضرورة اليوم بين أمريكا وحركة طالبان لن يكون بهُوية ولا بنكهة ولا بتفاصيل الأثر الرَّجعِي الذي تحلم به أمريكا؛ فالنِّدية أصبحت سيدة الموقف، والحركة اليوم بلغت من النضج عتيًّا وتجاوزت الكثير من أعراض المراهقة ورشدت إلى حدٍّ كبير، وأدركت أنَّ السياسة لا تصنعها فوهات البنادق والأحزمة الناسفة بل هي فن الممكن.

الحُلم الأمريكي بإعادة إنتاج طالبان كبندقية للإيجار لمواجهة إيران اليوم، وروسيا غدًا، هو حلم سيد ساذج ووهم مُتبدد، فقد أدركت حركة طالبان مؤخرًا أنَّ منطق الجغرافيا والتاريخ يفرضان نفسيهما على مجريات السياسة، ويرسمان ملامحها وقواعدها؛ لهذا أذعنت وأدركت وأقرت بحيوية إيران وأهميتها ومنسوب تأثيرها على الساحة الأفغانية سياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وروحيًّا، وتعلم أن روسيا اليوم قوة عظمى خالية من الأيديولوجيا الشيوعية، وأن الوجود الروس في الوجدان الأفغاني عميق ومؤثر كأبناء شرق واحد وشركاء تاريخ وجغرافيا؛ فقررت التناغم مع الواقع، والخضوع لمقتضياته، والانطلاق من خلاله.

وبالشكر تدوم النعم...،

-----------------------------

قبل اللقاء: الأمريكان لا يُخطِّطون دائمًا، بل يحلمون في كثير من الأحيان، ويلهثون طويلًا خلف تلك الأحلام بنرجسية لا تكل ولا تتبدل. لهذا؛ يُفكِّرون دومًا بعقلية الأثر الرجعي، دون قياس أو رصد لمؤشرات المستجدات ومنسوب التغيير.