"الله محبَّة"

عائشة بنت أحمد البلوشية

سُبحان من جَعل لغة الضَّاد ثمانية وعشرين حرفا، تختلف كلٌّ منها في مخارجها، وسبحانه وحده من جعل كلمة وزنها الحرفي حرفين اثنين، لكن ميزانها اللفظي يجمع مخارج الحروف، فكُلنا يعلم أن مخارج حروف اللغات تبدأ بالشفتين وتتدرج إلى اللسان وسقف الحلق، إما مفردة أو مُدمجة بين منطقتين من الفم لتنتهي بالحلق، وجعل ثقلها المعنوي إذا ارتبط بذاته العليَّة لا حدود له، إنها كلمة (حب)، فالحاء تخرج من الحلق، أما الباء فتخرج من الشفتين؛ وبذلك أقفلت مخارج الحروف جميعها في صندوق الفم، وكأنها دلالة على أنها تحتضن جميع حروف لغة الضاد لتغلِّفها بمعان سامية سمو الفضيلة الراقية، وليعلمنا المولى عزَّ وجل أن تكون هذه الكلمة بسيطة الحروف عددًا، لكنها عظيمة التصريف معنى إذا ما اتَّخذها الحصيف منهاجا يتعامل به مع كل شيء على هذه البسيطة.

"الله محبة.. الخير محبة.. النور محبة"، ما أروعها من كلمات، "ألف ليلة وليلة" أبدعت فيها أم كلثوم عام 1969م، كتبها مرسي جميل عزيز، ولحنها الموسيقار بليغ حمدي، هذه الأغنية أحد مشتقات مقام النهاوند يسمى "فرح فزا"، وهو من أكثر المقامات الموسيقية استخداما لدى الملحنين العرب في الأغاني الرومانسية، تترقرق كلمات "ألف ليلة وليلة" بانسجام عجيب مع عزف جيتار الراحل عُمر خورشيد، هذه الأغنية التي أجدها دوما في فلك مستقل تماما عن باقي الأغاني، بسبب ذلك الأثير الأبيض الذي ينتشر في الفضاء المحيط بكل مفرداتها، كلمات ولحنا وأداء؛ لأن بها شطرا يجسد أجمل وأسمى وأرسخ العلاقات بين الإنسان وخالقه، علاقة المحبة التي تجعل بشريتنا تُقبل على الطاعات والعبادات بكل روحانية شفافة، المحبة التي تجعل للخشوع معانيَ ومفردات لا يمكن ترجمتها بأي لغة، وربما -وأقول هنا ربما- كانت لغة الدموع الصادقة هي اللغة الوحيدة التي تكتب حروفَ هذه العلاقة النورانية الطاهرة، وهنا لا أفرض ما أجده فيها على أي امرئ يمر مشكورا على سطوري، بل هو إحساس شخصي أترجم من خلاله جلالة كلمة جمعت بين الحاء والباء.

على مرِّ العصور، نجد أن الحب يصنع المعجزات البشرية، فهو حب الانتماء إلى تراب الوطن، هو الذي جعل الأجداد يُصِرون على تطويع الجغرافيا بكل مقوماتها ليصنعوا لنا سبلَ الرخاء والراحة؛ فعندما ننظر إلى واحات النخيل الغناء نجدها قد غرست بحب لتزدهر وسط الصحاري، وأشجار الرمان والجوز السامقة تلك، نراها مزروعة بحب في مدرجات أقسى الجبال صلابة، بل حتى عندما تصافح أعيننا تلك القلاع الحصينة، والحصون المنيعة والمرصوفة بالحب رصفا على قمم الجبال، وأسوار الدفاع المرتفعة فوق سطح الارض التي تحيط ببعض القرى، وجدران الحماية المبنية جميعها بهندسة الحب على سواعد الأفلاج تحت الأرض، وكيف استطاع الحب أن يجعل الإنسان يصل إلى تلك الهندسة السحرية ليصل إلى جذور الجبال، ويتمكن من تحديد موقع أم الفلج، ثم يبدأ حفر الأنفاق تحت الأرض، ويجعل مُتنفسات الصيانة على هيئة ثقاب (جمع ثقبة، وهي الفتحات في الأرض، ولم تُجمع على ثقوب لأن المعنى الفعلي يختلف) تكون فوهاتها فوق الأرض، ويستمرُّ ذلك الحب الهندسي عدة كيلومرات ليصل إلى البلاد، ثم يقسمه على هيئة آثار ماء تجتمع في بادة -كنت قد شرحتها في مقال سابق- فترتوي النخيل والعوابي بماء الفلج الممجوج بمحبة من عمل في العمل المنسوب للجان -اعتباطا- بسبب هندسته العجيبة.

والحب هو من جعل الإنسان العُماني يبدع في بناء إحدى القرى الرائعة في حضن جبل بني جابر أو الجبل الأبيض، لا بل على جدار الجبل الصخري المستقيم! ليُثبت هذا الإنسان أن للصخر قلبا يحس ويحتضن ويحب، فأضحت قرية "تعب" في ولاية قريات التابعة لمحافظة مسقط، والتي هي اسم على مسمَّى؛ فالوصول إليها يأتي عن طريق قرية "فنس" الجميلة ذات الشواطئ برمالها البيضاء، مرورا بمقابر أو مدافن "كبيكب" الأثرية، أضحت قرية "تعب" مضربا لمعنى الحب بين الإنسان والأرض، مهما كانت تلك الأرض صعبة أو عصية، بمحبته لها طوعها كما أراد لها أن تبدو، وعندما ترفع ناظريك إلى تلكم البيوت متعددة الغرف والطوابق، ستراها عبارة عن صخر داخل صخر وكأن الكل يحتضن البعض، لن تملك إلا أن تسبِّح بحمد الله تعالى، وربما رفعت حاجبيك دهشة وهمست في نفسك متعجبًا: "إذا كان الصخر قد شق قلبه ليحتضن إرادة العُماني، فلا عجب أن حفر هذا الإنسان محبته في قلوب شعوب الأرض كافة".

وبنفس الأخلاق التي ضرب رسولنا -صلوات ربي وسلامه عليه- مثلا لنا بها، وبأضعاف المحبة التي كان عليها الإنسان العماني الأول لأرضه، يجب أن تكون الإرادة في بناء الوطن، والحفاظ عليه، والحرص على مقوماته، وكذلك حضارته الضاربة في عمق التأريخ، متسلحا بحبه لكل هذا الكم الهائل من الموروث المشرف ليبني بيد السلام والعزم حضارته الحديثة العهد؛ لأنه الحب وحده هو ما يجعلنا نبدع ونعطي بإخلاص منقطع النظير، فلو نظرنا إلى أيِّ موظف يذهب لعمله يوميا، سنجده أحد المثالين، إما متحمسًا لأنه ذاهب لمكان يمارس فيه العطاء بحب، أو مُحبَطا مُجبَرا لأنه ذاهب لمكان يمارس فيه طقوس الواجب وحسب؛ لذلك ستأتي النتيجة مختلفة تماما بين المثالين؛ فكلاهما سينتج ولكن سيكون الفارق في لون الإنتاج مختلف جدا، ولأن القارئ منكم سيقول إنَّ العالم اليوم مليء بالمثبطات والسلبية، سأرد عليه: "الله محبة.. النور محبة.. الخير محبة"، أحب كل ما حولك، وكل نعمة أنعم الله بها عليك، وستختلف نظرتك للوجود بأكمله.

---------------

توقيع: "تسلَّى يا قُليبي، وشيل الهم عنك

تسلَّى يا قُليبي وخل الحب فنك

بساعة بسط تسوى حياتك كلها آه..

وحب كل من يحبك وصُن عهدك معاهم

وبادر بالرِّضا والوفاء تكسب رضاهم

ويا محلى الأحبة، إذا ذاقوا المحبة

بساعة بسط تسوى حياتك كلها آه..

يا ليلة النور هلي، هلي علينا وطلي

العمر يا ناس فاني، ما حد معه عمر ثاني

أيام وشهور، ويا قلبي تمتع

وخذ وقتك واقنع

بساعة بسط تسوى حياتك كلها آه.."

 

كلمات - المرحوم أبوبكر سالم بلفقيه