حي بن يقظان (1)

محمد علي العوض

 

◄ الإنسان يخضع بكل ما فيه للبيئة فهي التي تسيطر عليه وليس العكس

 

قبل أن يطلق داروين مقولته الشهيرة "الإنسان ابن بيئته" أشار ابن خلدون قبل أكثر من 700 عام في نظريّته "الحتمية الجغرافية" إلى أنّ الإنسان يخضع بكل ما فيه للبيئة فهي التي تسيطر عليه وليس العكس، غير أن ابن طفيل (1100م -1185م) سبق كليهما إلى ذلك في مؤلفه القصصي الشهير "حي بن يقظان".. والذي تتبع فيه حياة طفل اسمه "حي" نشأ بين الأدغال، في قصة تشبه في عصرنا الحالي المسلسل الكرتوني الشهير "ماوكلي طفل الأدغال" مع اختلاف في جنس العامل المساعد "الحيوان" فماوكلي ربته الذئاب بينما ترعرع "حي بن يقظان" في أكناف ظبية كانت تسكن جوعه وتحمي ضعفه.

وبرغم أنّ ولادة "حي بن يقظان" بقيت لغزا واختلفت حولها الروايات، إلا أنّ ابن طفيل اعتمد الرواية التي تقول إنّ الطفل" حي" وُلد ميلادا عاديا مألوفا من أبوين عاديين؛ فالأم أميرة وشقيقة ملك إحدى الجزر الهندية، أمّا الأب وإن لم يكن أميرا مثلها إلا أنه ذو قرابة بها ويدعى "يقظان" أحب الأم وتزوجها سرًا خوفا من شقيقها الملك الذي عضلها ومنعها الأزواج؛ إذ لم يجد لها زوجاً كفوًا..

يقتبس ابن طفيل من قصة سيدنا موسى خوف الأم على وليدها؛ فبمثلما وضعت أم موسى وليدها في التابوت وألقته في اليم كذلك فعلت أم "حي بن يقظان" فبعد أن (حملت منه ووضعت طفلًا خافت أن يفتضح أمرها وينكشف سرها فوضعته في تابوت أحكمت زمَّه بعد أن أروته من الرضاع، وخرجت به في أول الليل في جملة من خدمها وثقاتها إلى ساحل البحر، وقلبها يحترق صبابةً به وخوفًا عليه؛ ثم إنّها ودَّعته وقالت: "اللهم إنّك خلقت هذا الطفل ولم يكن شيئًا مذكورًا، ورزقته في ظلمات الأحشاء وتكفَّلت به حتى تمَّ واستوى، وأنا قد سلَّمته إلى لطفك ورجوت له فضلك خوفًا من هذا الملك الغشوم الجبار العنيد، فكن له ولا تُسْلِمه...يا أرحم الراحمين")..

حمل التيار التابوت حتى ألقاه على ساحل جزيرة مجاورة هي جزيرة الواقواق (فأدخله الماء بقوته إلى أجمة ملتفة الشجر عذبة التربة مستورة عن الرياح والمطر محجوبة عن الشمس) وصادف أن مرت في المكان الذي استقر فيه التابوت ظبية كانت تبحث عن ابنها الذي فقدته، فلما سمعت صوت بكاء الطفل (عند فناء مادة غذائه واشتداد جوعه) لبّت نداء الوليد و(قامت بغذاء ذلك الطفل أحسن قيام، وكانت معه لا تبعد عنه إلا لضرورة الرعي. وألِف الطفل تلك الظبية حتى كان بحيث إذا هي أبطأت عنه اشتد بكاؤه فطارت إليه).. فقد صارت له أُمًا.

في قالب إبداعي فني شائق يدمج ابن طفيل في قصته ما بين الأدبية والفلسفة والعلوم، فالأحداث ومكونات القصة تعالج ببراعة ثيمة النمو المعرفي لدى "حي بن يقظان" والتي تنقسم إلى سبعة مراحل؛ تمثل عناية الظبية بالطفل المرحلة الأولى منها، تليها مرحلة موت الظبية ومحاولة "حي بن يقظان" تشريحها لمعرفة سبب الوفاة، أمّا المرحلة الثالثة فهي اكتشاف النار، لتأتي بعدها مرحلة تصفح الأجسام والموجودات ومقارنتها من حيث التشابه والاختلاف. ثم جاءت بعدها مرحلة اكتشاف الفضاء الخارجي حين التقى "حي بن يقظان" بـ"أبسال" القادم من جزيرة أخرى، وكأنّه بهذا المشهد أراد ابن طفيل أنّ يقول إن العزلة وإن كانت ضرورية لاكتساب المعرفة عن طريق التأمل والمراقبة والاستنتاج إلى أنه في مرحلة ما لابد من الخروج من عالم العزلة إلى عالم الحس ومعرفة ما يدور خارج السياج جديدة واستجلاب المعارف من فضاءات أخرى. وعند بلوغ الشاب حي بن يقظان الخامسة والثلاثين من عمره وفي طريقه نحو النضج العقلي يصل إلى منهج الاستنتاج بعد طول التفكير والتأمل، وفي المرحلة السابعة تكون سعادة "حي" كما يقول ابن طفيل في ديمومة المشاهدة لهذا الموجود الواجب الوجود.

تشكل هذه المراحل السبعة عند ابن طفيل المعادل الموضوعي لاكتساب للمعرفة، فالمعرفة عنده تتأتى بمناهج وطرق، ولكي يصل "حي بن يقظان" للمعرفة الإنسانية لابد له أن يتذرع بنُهج الملاحظة، والاكتشاف، والمصادفة، والحاجة، والاختبار، والمقارنة، والقياس، والاستنتاج، والحدس، والتصرف والمراقبة والمحاكاة فحين راقب الحيوانات عرف الفروق بين الضاري والأليف والأعضاء، وحين دفن الظبية حاكى الطير وهو يدفن موتاه (ثم إنّه سنح لنظره غرابان يقتتلان حتى صرع أحدهما الآخر ميتًا، ثم جعل الحي يبحث في الأرض حتى حفر حفرة فوارى فيها ذلك الميت بالتراب، فقال في نفسه: ما أحسن ما صنع هذا الغراب في مواراة جيفة صاحبه وإن كان قد أساء في قتله إيّاه! وأنا كنت أحق بالاهتداء إلى هذا الفعل بأمي! فحفر حفرة وألقى فيها جسد أمه وحثا عليها) التراب ويحيل هذا المقطع بالطبع إلى توظيف ابن طفيل للنص القرآني فالمشهد شبيه بمشهد قتل قابيل لهابيل وتحيره في كيفية مواراة جثة أخيه فعلمه المولى تعالي عن طريق المراقبة والمحاكاة حين بعث سبحانه غرابين يقتتلان، فقتل أحدهما الآخر، وقام بحفر حفرةٍ في التّراب بمنقاره ليواري الجثّة.

وأيضًا عبر أسلوب المُراقبة ثم المحاكاة قلّد "حي بن يقظان" الحيوانات والطيور في دفاعها عن نفسها وكسائها ولكن بطريقته الخاصة حيث اتخذ ورق الأشجار حماية لجسده بدلاً من الريش والوبر، واتخذ العصي بديلا للأنياب والمخالب والقرون، أما في نهج التجربة فقد شرّح الظبية لمعرفة سبب موتها، هذا التشريح للظبية أفضى إلى ما يعرف بالتعليم عن طريق الاكتشاف أو الصدفة، فقد اكتشف حي ما بداخل الظبية من أعضاء داخلية وصفاتها ووظائفها (فبحث عن الجانب الآخر من الصدر فوجد فيه الحجاب المستبطن للأضلاع ووجد الرئة) (وجرَّد القلب فرآه مصمتًا من كل جهة فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة فلم يرَ فيه شيئًا؛ فشدَّ عليه يده فتبيَّن له أن فيه تجويفًا)..إلخ.

ولأنّ "الحاجة أم الاختراع" ودافع للتقليد؛ عندما شعر حي بن يقظان بحاجته لاتقاء زمهرير الشتاء وحر الشمس (اهتدى إلى البناء... فاتخذ مخزنًا وبيتًا لفضلة غذائه وحصَّن عليه بباب من القصب المربوط بعضه إلى بعض لئلا يصل إليه شيء من الحيوانات عند مغيبه)..

ودفعه التأمل في المخلوقات لاكتشاف روحها وتكوين نظرية عنها فظهر له بهذا التأمل أنّها وإن اختلفت شكلا وظاهرًا إلا (أنّ الروح الحيواني الذي لجميع جنس الحيوان واحد بالحقيقة، وإن كان فيه اختلاف يسير اختص به نوع دون نوع، بمنزلة ماء واحد مقسوم على أوانٍ كثيرة بعضه أبرد من بعض، وهو في أصله واحد)..

كل هذه النهج السابقة من قياس واستنتاج وملاحظة وخلافه تجدها حاضرة في قصة "حي بن يقظان" وتوسل بها لاكتساب المعرفة مما حوله، فقد كان تلميذًا والبيئة معلمًا.