حديقة الطيور أم حديقة الحيوانات؟!

د. سيف بن ناصر المعمري

لا شك أنَّ الفكر الاقتصادي يُسهم بدور كبير في تحقيق التنمية المُمكنة والمُناسبة لمرحلة من المراحل التي يمر بها أي بلد، وحين يكون الفكر الاقتصادي عميقاً مستقرئًا للواقع المالي بالذات، يتم تجنب كثير من المشاريع التي إما أنها تفشل نتيجة توفر الموارد الكافية لها أو أنها تستنزف موارد كثيرة ولكن دون جدوى، وبالتالي تكون عبئاً على كاهل الموازنات بدلاً من أن تكون استثمارًا ينعش هذه الموازنات بالعوائد المالية، علينا أن ننطلق في هذه المرحلة من هذا الفكر الاقتصادي، حتى نتجنب عمل مشاريع لا عوائد منها، إلا ظهور على الأرض وجعلها محطة من محطات زيارة السائحين والضيوف الرسميين للبلد.

ويجب أن نتعلم من تجارب من حولنا في ذلك من الدول التي تقدمت ليس بفضل الموارد ولا بالعوائد، ولا باحتكار الاستثمار والقرار، إنما تقدمت بفضل "الحنكة الاقتصادية" التي تعرف ما تُريد، وتعي ما يقدم لها من دراسات استشارية لإنشاء مشاريع يظهر لاحقًا أنها فاشلة لأننا لم نتمكن من التعمق في جدواها ومتطلباتها.

لنستحضر هنا كوكنغ سوي وزير المالية الأوَّل والخبير الاقتصادي الذي كان له دور في النهوض باقتصاد سنغافورة؛ حيث يحكي أحد الموظفين الذين كانوا يرافقونه في اجتماع إلى البنك الدولي في عام 1986 أنهم في رحلة العودة طلب منه أن يكتب لإنشاء حديقة للطيور في سنغافورة، فتعجَّب منه وسأله لماذا يا سيدي نحتاج حديقة طيور وليس حديقة حيوانات؟ فأجابه بحنكة الاقتصادي الذي يعرف ما تحتاجه المشاريع، وقال: إن الطيور تأكل الحبوب فقط وهي رخيصة أما الحيوانات فتأكل اللحوم وهي باهظة الثمن، وبالتالي علينا أن نمضي في أي مشروع يثبت جدواه الاقتصادية.

السؤال الذي أطرحه مرتبط بالمنظور الاقتصادي، وهو الذي يشغل الناس حاليًا ويأملون أن يجدوا رؤية مستقبلية للخروج بأفق يبعث على التفاؤل، هل علينا أن نقود اقتصادنا وفق منطق القاعدة السنغافورية في القياس بين جدوى مشروع حديقة الطيور وحديقة الحيوانات؟ أم نواصل إنشاء مشاريع بعكس هذه القاعدة، وندفع كلفة كبيرة ولا نحصل على العوائد المتوقعة من ذلك. ألم يحدث ذلك أكثر من مرة؟ هل حققت الموانئ التي أنشئت في الولايات للصيد وغيرها الجدوى الحقيقية منها؟ هل حققت الأسواق التقليدية جدواها المالية؟ هل نحن مقبلون على ميناء سياحي نشط في مطرح، والأمر ينطبق على مشاريع في قطاع التعليم وقطاع الخدمات والقطاعات الأخرى، التي كانت تقتضي حنكة اقتصادية تتأمل فيها، وترفضها إن كانت سوف تأخذ من موازنة البلد دون أن تضيف إليها شيئًا، ألم يكفنا أن ننفذ مشروعات من أجل مرضاة زيد أو عبيد دون أن يكون لدينا مؤشرات حقيقية واضحة للعائد من الاستثمار، إن كان ذلك مقبولاً في ما مضى وأضاع أجزاء من الموازنة نتحسر عليها اليوم لأنها كانت أشبه "باللبن المسكوب على الأرض"، ونقول ليته تم الحفاظ عليها حتى يستفاد اليوم منها بدلاً من هذا التقشف الذي قاد الحياة الاقتصادية والاجتماعية إلى ركود كبير، دون أي مؤشر على انفراجة قريبة، لأنه لم يتغير شيء في التعاطي مع الظرف الاقتصادي، ولم يُفكر أحد اليوم بقاعدة حديقة الطيور أو حديقة الحيوانات، ولذا كثير من مشاريعنا يأكل فيها اللحم باهظ الثمن الذي يثقل كاهل الجميع وفي مُقدمتهم من يجلسون في أسفل السلم لا يملكون أظافر الأسود، ولا شراسة النمور لكي يحصلوا على حصتهم من اللحم الذي لا يفعل شيئا إلا الضغط على الموازنة التي تعاني لكي تحقق الاستدامة التي يتحدث عنها المشرفون عليها.

ولذا تبدو الحاجة ماسة إلى إنشاء هيئة خبراء اقتصاديين من خيرة أبناء البلد أو هيئة حوكمة اقتصادية، لكي تحكم هذه المشاريع الاقتصادية كما تحكم كثيرا من نواحي الحياة بما فيها الأبحاث العلمية، والمنازعات القضائية وغيرها، من أجل ترشيد القرار الاقتصادي الخاص بالمشاريع التي تنتمي إلى فئة حدائق الطيور وتلك التي تنتمي إلى فئة حدائق الحيوانات، وتقرير مدى أهميتها وصلاحيتها وجدواها الاقتصادية، ذلك سيكون عاملاً مساعداً على الحد من استنزاف الاستثمار وتفريغه من جدواه، مما يعقد من الوضع الاقتصادي، ويُقلل من فرص ظهور الاقتصاد المستدام الآمن الذي يركن إلى دقة التخطيط، والتنفيذ.