عيشوا بصمت

 

سيف بن سالم المعمري

عُرف عن شخصية الإنسان العُماني العديد من القيم والسمات الحميدة كالسماحة والوئام والانسجام، والتعاون والتعاضد، والسمت والصرامة، والإباء وعزة النفس، ومساعدة الآخرين، ونحوها، ولقد أثنى نبينا الكريم على صنيع العُمانيين، ودماثة أخلاقهم، فقد روى الصحابي الجليل أبو برزة الأسلمي رضي الله عنه فيقول: "بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا إِلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَسَبُّوهُ وَضَرَبُوهُ، فَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ أَهْلَ عُمَانَ أَتَيْتَ مَا سَبُّوكَ وَلَا ضَرَبُوكَ" رواه مسلم.

ويقول الرحالة الإنجليزي جون أوفنجتن عندما زار عُمان عام 1693 واصفاً أهل عُمان "إنّ هؤلاء العرب على قدر كبير من دماثة الخلق، يظهرون لطفاً وكرمًا كبيرين للغرباء، فلا يحتقرونهم ولا يلحقون بهم أذى جسديًا، وهم على تشبثهم الثابت بمبادئهم والتزامهم الراسخ بدينهم، لا يفرضون تلك المبادئ وذلك الدين على الآخرين، كما أنّهم لا يغالون بالتمسّك بها والمرء يقطع في بلادهم مئات الأميال دون أن يتعرّض للغة نابية أو لأي سلوك فج".

ولا تزال تلك الخصال الحميدة –ولله الحمد- راسخة الأركان في مجتمعنا العُماني الأصيل، وكل من يدلف إلى هذه الأرض المباركة يجد أنّ تلك المثل السامية أصبحت عقيدة وسلوكا للمجتمع العُماني، غير أن ذلك لا يعني الانسلاخ التدريجي منها من خلال سلوكيات غير حميدة من البعض في ظاهرها تأكيد على قيم السماحة واللطف والشخصية الودودة، لكنها قد تبدو للغير نقاط ضعف وثغرات يمكن الدخول من خلالها إلى ما هو أبعد من ذلك.

وللتفصيل في ذلك، أقول إنّه ومن خلال مخالطتي للمجتمع أجد نقاط ضعف بحاجة إلى قراءتها بعين المسؤولية الذاتية والمجتمعية، فلم يترك البعض من العُمانيين تفصيلا في حياته الاجتماعية والمهنية إلا وكان للوافد نصيبا وافرا منها، فبمجرد دخول الوافد إلى البيت العُماني لأي سببا كان، ضيفا أو ممتهنا لمهنة، أو مقدما لخدمة، ألغيت أمامه كل الحواجز والخطوط الحمراء، فللوهلة الأولى لدخوله في تلك الأسرة، تلقى كم هائل من المعلومات المجانية، ربما من ربّ الأسرة أو من أحد أفرادها، عن عدد أفراد الأسرة، ذكورهم، وإناثهم، ومراحلهم العمرية، والدراسية، ووظائفهم، ورواتبهم، والمتزوج منهم، والعزب(غير المتزوج)..الخ

وهو الحال ذاته حينما يذهب العُماني إلى المحلات التجارية كالخياط أو المقهى أو صالون الحلاق، وفي ترددي الأسبوعي على صالون الحلاقة كثيرا من يؤذي مسمعي، قضاء العُماني جل وقت في أثناء الحلاقة، وهو يتبادل أطراف الحديث مع العامل الوافد، وللأسف العُماني في محل الإجابة لا السؤال، وهو يجيب عن الكم الهائل من الأسلة المتدفقة عليه من الحلاق الوافد، يسأله عن: وظيفته، ومقر عمله، وراتبه، وإجازته السنوية متى ستبدأ؟ ومتى ستنتهي؟ ورحلاته الصيفية إلى أين، ومتى، وكيف، ومع من، وهل هو متزوج، أو على وشك، وغيرها الكثير..

وامتداد لما سبق ومما يبعث في النفس مرارة، أن تصبح شبكات التواصل الاجتماعي منصات لنشر الغسيل، وكشف العورات، فلا خطوط حمراء للمحرمات، ولا تقدير خاص للخصوصيات، فالكل يتهافت على التصوير للنشر والتوزيع، يطبخون ويأكلون ويصورون، يلبسون ويصورون، يجلسون ويلعبون ويصورون، يذهبون ويرجعون ويصورون، يركبون وينزلون ويقودون السيارة ويصورون، يسافرون ويصورون من تذكرة السفر إلى ما بعد العودة منه.

يفصلون يومياتهم في شبكات التواصل الاجتماعي صوت وصورة وحركة، لأدق أدق التفاصيل، واجهات(بروفايلات) حساباتهم في تطبيقات التواصل الاجتماعي، تتزاحم فيها أطباق الأكل، وغرفهم الخاصة، ومرافق المنزل، صور لأطفالهم يلبسون، يأكلون، يلعبون، ينامون، عبارات كتبت على البروفايلات: أنا في البيت، أنا في السوق، أنا في دولة... أنا أدرس في المؤسسة الفلانية، أنا ألعب... صورة لشهادات الميلاد والدراسية، والوثائق الحكومية ونحوها..

لم تكتف شبكات الاجتماعي أن تكشف كل المحرمات، بل أسهمت في تأجيج الخلافات الأسرية والمشاكل العائلية، فهناك أسر آخرى تكتفي بالتفرج، فليس كل ما يملكه غيرهم، يملكون، ويزيد وطأة الأمر على رب الأسرة الذي لا تسعفه إمكانياته لتحقيق تطلعات أسرته، فيطالبونه بالسفر كما سافروا، والذهاب حيثما ذهبوا، وأكل ما يأكل آخرون..

عيشوا أيّها الأحبة بصمت، ما تملكونه قد لا يملكه غيركم، احمدوا الله عليها، ولا تبطروا، الوطن الآمن المستقر أنتم محسودون عليه، وهناك من يتربص بكم الدوائر، والصحة والمال البنون والجاه قد حرم منها غيركم، فلا تُعيَّروهم بما عندكم..

عيشوا بصمت، استمتعوا بلحظات حياتكم ولا توثقوها، وأسالوا الله العافية ودوام النعم والفضل والاستقرار، لكم ولأوطانكم.

وبوركت الأيادي المخلصة التي تبني عُمان بصمت،،

Saif5900@gmail.com