تاريخنا التائه في مؤسسات التعليم

د. سيف المعمري

لم تكُن ندوة "المهلب بن أبي صفرة" التي عُقدت الأسبوع الماضي في جامعة نزوى، إلا شرارة من ضمن العديد من الشرارات التاريخية التي اندلعت في فترات مختلفة في السنوات الأخيرة؛ تبعا لما يجري من فعل من جوارنا المتصل بنا ليس جغرافيا بل تاريخيا، لكن تلك الشرارات لم تفلح في إشعال حريق كبير في قلوبنا ولا في عقولنا حول تاريخنا -رغم الاستنفار الشعبي الذي لا يزال يرافقها-  لقد أدرنا ظهورنا ردحا من الزمن أفرادا ومؤسسات عن تاريخنا، ولم نكتفِ بهجر القرى والمواقع التاريخية والأثرية وهي لم تقل بعد كل ما يجب أن تقوله لنا، بل عمدنا إلى تجريف التاريخ من الكتب المدرسية والمناهج الجامعية التي تعد الحاضنة الأهم التي يمكن أن تولد وعيا بما نملك من إرث حضاري لدى أجيالنا المتعاقبة، هذه الأماكن تعلم كل شيء إلا تاريخنا الوطني الذي حشر في زاوية ضيقة، وفي مقررات معدودة تقدمها بعض المؤسسات فقط لا كلها، وكأن هؤلاء الطلاب لا ينتمون إلى أمة تحمل تاريخا طويلا متوزعا في جغرافيا مترامية الأطراف، كيف أصبح تاريخنا تائها ضائعا في المؤسسات التعليمية وهي أهم مؤسسات في صناعة الوعي وبناء الفخر الوطني؟

قد يعد البعض أن التوقيت غير ملائم لطرح هذا التساؤل، والمهلب بن أبي صفرة وغيره من رموز التاريخ العماني لا يزالون يصرخون في قبورهم، واعماناه، يريدون أن يُسمعون الأحياء من أحفادهم لكي يعيروهم سمعهم، ليسمعوهم ما لديهم، من سير تاريخية صنعت تاريخا مشرفا لهذه البلد، ولكن للأسف لم يجدوا آذانا تسمع لهم، ولم يقدم لها مساحة لكي تقف على متون الصفحات ولا هوامشها، فأين سيتعلم هذا الجيل العماني تاريخه، إن كانت مناهج المدارس والجامعات ضاقت بما رحبت عن المهلب بن أبي صفرة وغيره من الأفراد والجماعات التي حركت التاريخ العماني، وصنعت الحضارات والدول المتلاحقة في عُمان، من أين ستعرف هذه الأجيال خريطة الدولة العمانية؟ والمنهج يتكلم عن كل شيء إلا التاريخ، هل تاريخنا عار حتى نقصيه من مناهج التعليم؟ هل تاريخنا تاريخ خزي وانهزام حتى نهمشه من مناهجنا؟ هل تاريخنا تاريخ هزائم وجهل وظلم حتى نجتنب الحديث عنه لأجيالنا؟ حتى إذا انطلقت شرارة هنا وهناك تمسه، ثار الجميع إلا المسؤولون عن مؤسسات التعليم؟ أليسوا جزءا من القضية التاريخية الشائكة التي نعيشها ولا نعرف إلى أين تأخذنا تجاذباتها: هل ستقودنا إلى العودة إلى الجذور والتعلم من الماضي بكل جوانبه واستلهام القوة والإرادة منه من أجل بعث جديد لمكامن القوة في ظل التحديات الجسام التي تواجههنا، أم ستقودنا إلى الدوران في متاهة لا قرار فيها ولا رؤية، إلا ذلك الغليان الذي لا يقود إلا إلى ضجيج لا يسمع فيه أحد أحدا.

لا شك أنني وآخرين نتساءل: لماذا يدعى المسؤولون عن التعليم إلى هذه الندوات التاريخية؟ ولماذا تعقد هذه الندوات في مؤسسات تعليمية، وهؤلاء المسؤولون هم سبب رئيسي في تجريف التاريخ العماني من المناهج الدراسية، وهذه المؤسسات لم تخصص في مقرراتها الدراسية ما يستحقه تاريخنا الكبير من أهمية؟! إن وجودهم في هذه الفعالية وغيرها كمستمعين ومتفرجين لا كمسؤولين يعكس أزمة التاريخ لدينا، فإن كان المسؤولون عن مؤسسات التعليم وبناء الوعي لا يعون أهمية دورهم، ولا يزالون -وهم المعنيون في المقام الأول- بدون موقف في ظل كل ما يجري، منعزلين في عالم آخر دون مراجعة لموقف مؤسساتهم من تدريس التاريخ العماني، وتوسيع نطاق حركته وظهوره عبر مختلف الأنشطة المنهجية واللامنهجية؛ فمعنى ذلك أن بعث التاريخ بدون مؤسسات التعليم يظل بعثا ضعيفا لا يمكن أن يقود إلى بناء وعي عميق؛ فالمسألة ليست تقديم حقائق تاريخية هنا وهناك، إنما هي دراسة معرفية فكرية فيها تأمل وتفكير واستلهام في مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، ذلك التدبر الواعي هو الذي سوف يرسخ قيمة التاريخ ومعناه في عقول أجيالنا المختلفة، بدون ذلك ستقود مؤسسات التعليم هذه الأجيال إلى أن تتيه في ثقافة عالمية يتزايد فيها إنكار الزمان والمكان يوما تلو الآخر، فيمضون يبحثون فيها عن المعنى لوجودهم، وقد يجدون صعوبة في ذلك.

لا يجب أن تتوارى المؤسسات المعنية عن المشهد؛ ظنًّا أن ردة فعل الأفراد أقل ضررا أو إحراجاً، فهي مسؤولة لديها أهداف يجب أن تعمل عليها حتى وإن غفلت عنها ردحا من الزمن نتيجة لعدم ظهور هذه الضغوطات التي تظهر اليوم بشكل متتالٍ، فمثل هذه الضغوطات تتطلب عملا مؤسساتيا لا انفعالات فردية شعبية مهما كانت حدتها، إلا أنها لا تؤسس لعمل مستدام راسخ يعزز من حضور التاريخ والحفاظ على مكوناته المختلفة المادية وغير المادية، ونتوقع من مؤسسات التعليم خلال الفترة المقبلة أن تعبر عن مسؤولياتها تجاه التاريخ الوطني، وقد اقترحنا في المجموعة البحثية "التربية على المواطنة والدراسات الاجتماعية خلال الملتقى العلمي.. وصل الأحفاد بالجذور تدريس التاريخ العماني بمؤسسات التعليم" على هذه المؤسسات تدريس التاريخ العماني بمختلف مراحله وأزمانه من قبل الميلاد حتى 1970م، من المهم لدينا أن تخرج مؤسسات التعليم عن سلبيتها وصمتها على كل ما يجري خلال سنوات من نقاشات حول التاريخ العماني لكي تجنب أجيال عمان التيه في عالم كبير لا تعرف فيه تاريخها ولا قصة حضارتها الطويلة والعريقة.