الحب في زمن الحرب (2- 4)

 

علي بن مسعود المعشني

الطريق من منفذ شحن الحدودي اليمني إلى صنعاء طريق شاق وطويل في ظل ظروف الحرب، فبدلًا من دخول صنعاء عبر منطقة صرواح بمأرب والذي لا يتجاوز ساعتين من الزمن يضطر المسافر إلى سلك طريق العبر البيضاء رداع ذمار، وصولًا إلى صنعاء أي قطع مسافة إضافية قد تصل إلى عشرة ساعات فأكثر بحسب جاهزية المركبة ومهارة السائق، فمنطقة صرواح هي منطقة التماس عسكرية بين الفرقاء في اليمن اليوم.

والطريق يعاني من الإهمال الواضح وفقد الصيانة وكثرة الحفر والحواجز الأسمنتية لدواع أمنية ونقاط التفتيش، والتي ورغم انتشارها وكثرتها لا تقوم بأي إعاقة تذكر لحركة المسافرين بل اكتشفت أهمية وجودها في بعض المناطق في ظل غياب الدولة ودورها الإيجابي في حفظ الأمن وإشعار العابرين بشيء من الأمن والاطمئنان. في منفذ شحن تجد من يعرض عليك المرافقة وقيادة المركبة بمقابل مالي معقول وبحسب الاتفاق، وهم غالبًا من الشباب اليمني العارفين بمسار الطريق إلى جميع محافظات ومدن اليمن، ويمتهنون هذه المهنة ويعتاشون منها، وكان من نصيبي أن رافقني شاب من محافظة حجة إلى صنعاء بحسب اتفاقنا ثم عاد أدراجه إلى منفذ شحن عبر النقل العام في اليوم التالي لكسب عيشه، وقد كان لمرافقته لي أثر إيجابي بالغ في سهولة رحلتي وتيسير تفاصيلها اليومية وصولًا إلى صنعاء مقصدي النهائي لمعرفته بالطرق والخدمات.

في اليمن عادة وفي الظروف الطبيعية لا تحتاج إلى مرافق أو دليل فالكل يخدمك ويرافقك ويقدم لك ما تحتاجه بطيب خاطر وصدق وأمانة، فمازال اليمانيون العادي منهم وصاحب الحرفة أو التاجر يحتفظ بالكثير من خزين الأخلاق ورقي التعامل وعلى رأسها الصدق والأمانة رغم كل الظروف القاهرة المحيطة بهم.

في رداع اضطررت للمبيت لصيانة السيارة من جهد الرحلة وللاطمئنان على سلامة الأساسيات فيها، وأثناء وجود السيارة في الورشة استغللت الظرف للتداخل مع اليمنيين المحيطين بالفندق من مطاعم ومحال تجارية والعابرين كذلك، حيث شجعتني طبيعة اليمني الفطرية وشفافيته وعفويته ووده على التداخل السريع معهم وفي جميع المناطق والمرافق وبلا استثناء فطيبتهم المتناهية تجبرك على الخوض معهم في كل شيء بلا تردد أو تحفظ.

ففي رداع بدأت في ممارسة هوايتي بالجلوس مع الفقراء ومساعدتهم بما استطعت من مال أو طعام فالناس في حالة يرثى لها من الجوع والحاجة الماسة للمال نظرًا لغياب الرواتب لشهور وقلة مصادر الدخول الأخرى، الأمر الذي استخلص من اليمنيين أصفى ما بهم من طباع حيث ترى التكاتف والتعاون والتعاطف والعفاف في أجلى وأصدق صورها بلا منة ولا أذى.

المطعم المجاور للفندق يقوم بتدوير فائض الطعام على الفقراء والمحتاجين بالمجان ثمّ رأيت هذه العادة يمارسها ملاك المطاعم في ربوع اليمن في تجسيد إنساني لغياب الأنا الصغرى والذات إلى مساحات الأنا الكبرى والشعور بالمسؤولية الاجتماعية ومشاركة الجميع وتقاسمهم للآلام والآمال معًا.

أغلب الفنادق في اليمن تحرص على تأمين سيّارات النزلاء عبر تخصيص مواقف مؤمنة أو توفير حراسات ليلية وكاميرات مراقبة، كما تحرص أغلب المنشآت الخاصة في اليمن على توفير أفراد مسلحين للحراسة والأمن وهو تقليد أقرب إلى الفولكلور في اليمن منه إلى بسط مظاهر التسلح أو غياب الأمن فهي مجرد مظاهر للزجر والردع وتوفير فرص عمل كذلك.

في اليمن تجد أنّ الدنيا في أيدي اليمنيين وليست في قلوبهم، حيث التفاني والإخلاص والإيثار وحب العطاء يتجسد في سلوكهم، ولا يقتصر الأمر على العطاء المادي لدى اليماني بل يمتد ليشمل العطاء الروحي فاليماني على استعداد فطري لبذل الروح في حالات الاستحقاق ولحظات الفصل وبلا تردد.

بقيت برداع ليوم وبضع يوم للزوم الراحة وصيانة السيارة وأنا كلي لهفة وتعطش لرؤية صنعاء وكأن بيني وبينها موعد غرامي نادر أو لقاء تاريخي غير مسبوق، مشاعري تجاه صنعاء هي مشاعر تعاش ولا يمكن وصفها، فالشعور والوصف يتوقفان حين الحديث عن صنعاء صانعة الخيال والجمال وأم الحنان ورمز العطاء. فصنعاء ملهمة للزائرين والمقيمين بكل شيء فيها، فهي مدينة عتيقة وعريقة وكل شيء ينطق بداخلها الإنسان والحجر والشجر، فتلهم الأعمى والبصير.

قبل اللقاء: في اليمن الكثير مما يستحق الحياة لأجله ويستحق البذل والتضحية قبله.

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com