مناجم الذهب (13)

رحلة الثلاثين عاما (١٩٧٠ - ٢٠٠٠)

 

عائشة البلوشية

انتقل من بوابة السدة إلى بيت الزبير الواقع قرب سوق الحافة في يومنا هذا، فأصبح ذلك مكانًا للعمل ومقرًا للسكن، وفي سبتمبر من عام ١٩٧١م، انتقل إلى مسقط ليبدأ المرحلة الجديدة من عمله، بحيث تناوبت ما بين مرحلة العشق في التعامل مع الأجهزة، وبين التعمق في التعامل مع الأجهزة المختلفة عن قرب، لتمتد هذه المرحلة لتشمل بقية حياته وتصبح هي السمة الأبرز لشخصيته.

انتقل من مرحلة التعامل مع الجماد الصامت، ليصل إلى خلق علاقة روحانية مع روح تلك الجمادات، فهو عندما يتعامل مع الجهاز لا يكتفي بمجرد ناتج عمل المسننات أو الشرائح أو الموصلات في ذلك الجهاز، بل العجيب أنه يلتحم مع آلية عمله وطريقة أدائه لأيِّ مهمة صنع لها، فعلى سبيل المثال عندما تعطل أحد أجهزة الاتصال في مكتبه ذات يوم من سبعينيات القرن الماضي، لم يكن يعلم سبب طلبه لمجفف الشعر ممن حوله، ولكنه أحس بأنَّه سوف يتمكن من إصلاح العطل الذي ألم به بشكل أو بآخر، ذلك الطلب جعل من حوله يرفعون حواجبهم دهشة، فكيف يأتون إليه لاهثين بأن ذلك الجهاز الهام قد توقف عن العمل فجأة، وبكل هدوء يطلب من المنسقة أن تحضر له مجففاً كهربائياً للشعر، حتى أنهم قالوا له إنه ليس الوقت الأمثل لكي يجفف شعره!!، وأمام إلحاحه باتوا مذعنين لطلبه العجيب وكانت درجة الدهشة توازي ذلك الإحساس، فبعد أن مرر الهواء الساخن فوق الجهاز وهو يحرك شفتيه مداعبة لمن حوله بأنه يقرأ التمائم، اشتغل الجهاز فجأة مثلما توقف، وهنا فغر الجميع أفواههم، ومنهم من انتابه الرعب معتقدًا أن في الأمر سحراً، بل حتى هو نفسه انتابته الدهشة لما حدث؛ ثم تكرر المشهد مرتين، وفي كل مرة كان يستخدم ذات التكنيك، إلى أن حرن الجهاز في المرة الثالثة وأصر على التوقف تمامًا، مما اضطرهم إلى السفر بالجهاز إلى بلد المنشأ لإصلاح العطل، لأنه من المتعارف عليه في العقود المبرمة عند شراء بعض الأجهزة الحساسة، أنه يمنع منعًا باتاً العبث بها، أو حتى فتح الجهاز عند العطب، بل عليهم إعادتها إلى ذات الشركة لإصلاحها أو إتلافها، بحسب درجة العطل، ما يهمنا هنا أن مهندسي الشركة استمعوا إلى حكاية ذلك الرجل العبقري الذي انتهج تلك الطريقة، فأبلغوا الشخص المكلف بتسليم واستلام الجهاز، أن سلكا موصلا للكهرباء انفصل قليلاً، فكانت حرارة هواء مجفف الشعر عند تمريره على سطح الجهاز تتسبب في تمدد السلك فيوصل الكهرباء ليعمل الجهاز على الفور، ولكن في المرة الأخيرة كان ذلك السلك قد انقطع تمامًا فلم يجد الهواء الساخن معه نفعاً، وعندما عاد الشخص المعني أخبرهم بتلك الحكاية ليضحك الجميع على ما وجدوا من طرافة تغلفها الصدفة، ولكنه لم يكن بالشخص المذعن لكلمة (صدفة)، بل جلس محاولاً أن يسبر أغوار المغزى مما حدث معه، وما هو ذلك الخاطر الذي استلهم منه استخدام مجفف الشعر، وما هو الشيء الذي همس له سرًا بأنَّ العطب قد يزول إذا مرر الهواء الساخن على سطح الجهاز، وهنا انتابته قشعريرة عندما عاد إلى ذلك السؤال الذي بات أشد إلحاحًا عن ذي قبل: كيف تسري الذبذبة في كل شيء؟ في الأرض وفي الماء وفي الهواء؟ لتصل إلى الجهة الأخرى، إن انتقالها عبر الأسلاك أصبح من المسلمات، حسناً.. ولكن كيف تنتقل الذبذبة أو الإشارة أو الخاطرة من شخص لتصل إلى آخر فيبادر بالاتصال بك أو بإرسال السلام إليك، بل كيف تخطر نفس الفكرة على بال شخصين اثنين في نفس المجلس، ما هو الوسط الموصل لهذه الذبذبات؟ ففكرة المجفف كانت ذبذبة في مكان ما، ولكنها وصلته وطبقها ونجحت، فكيف حدث ذلك؟!... تبقى هذه الأمور الغامضة ضمن علوم "الماورائيات"، ولكنها تفتح مجالاً عظيماً للتأمل والتفكر.

وتمضي الأيام لينهل من معين فنون الأجهزة المختلفة للاتصالات وغيرها، ويذرع عمان شبرا شبرا، ويقترب من اكتشافه شيئا فشيئا، لأنه اتخذ عمله هوايته، فعشقه بكل تفاصيله وتعبه ومشاقه وتحدياته، ويتدرج في الوظائف خطوة خطوة، ليقف على رأس هرم الاتصالات التي عشقها ومازالت حبيبته التي لا يبادلها بمعشوقة غيرها، وكان كلما قام "حدسا" باختيار نقطة التقاط إشارة الاتصالات لبعض المحطات التي تربط ولايات السلطنة، وأصر على مهندسي الاتصالات بأن هذه النقطة هي الأمثل، تأتي النتيجة بأن مقترحه كان في محله تمامًا، فيحمد الله الذي أعطاه هذه الملكة من شغف بهذا العالم، وبالرغم من عدم حصوله على الشهادات والمؤهلات، إلا أنه عشق فأتقن، وأحب فأعطى، ليتذكر ذات يوم تلك الهدية الصغيرة حجمًا التي جلبها له والده في طفولته من البحرين، كانت عبارة عن سيارة صغيرة قام باللعب بها قليلاً، ثم ما لبث أن اختلى بها ليشبع فضوله الطفولي ويبدأ في فكها قطعة تلو الأخرى، ليقتفي أثر آلية عملها، وكيف تسري الكهرباء خلالها وهي بهذا الحجم الصغير، ثم أعاد تركيب بعض القطع ليحول تلك السيارة الصغيرة إلى مروحة، ورغم أنها لم تكن تفي ولا تغني من حر، ولكنه كان سعيدًا أيما سعادة بأنه حور شيئاً إلى شيء آخر، ويكبر معه ذلك الفضول والنهم مع مضي السنين، ذلك العلم الذي يكرر دائمًا أنه لن يشبع من التعمق في ملكوته، لأنه كلما دخل فلكًا رأى أمامه فلكاً أعلى وأجمل، حتى جاء التقاعد في عام ٢٠٠٠م ليترجل عن كرسي الوظيفة، ويستلم كرسي العمل الاجتماعي، ويبدأ في الاطلاع والبحث والقراءة والكتابة، لأن الخدمة الحقيقية لهذا الوطن لا تنتهي بالتقاعد، بل هي البداية الحقيقية للتعبير عن الحب الخالص والإخلاص الصادق والوفاء غير المحدود لكل شبر فيه، ليصل ذات يوم في أحد المعارض الدولية إلى جهاز رائع كان يستخدم للأغراض العسكرية الاستكشافية، ولازال يستخدم في أغراض أخرى، ليقتني أول جهاز ويقولبه ويضفي لمساته الفنية عليه ويحوله إلى أروع جهاز لكشف المعادن الثمينة!!!

 

(يتبع)....

 

_____________________________________

توقيع:

"وأُعْرِضُ عن مَطاعِمَ قد أَراها.. وأَتْرُكُها وفي بَطْنِي انْطِـواءُ.

فلا وأَبِيكِ ما في العَيْشِ خَـيْرٌ.. ولا الدُّنْيا إذا ذَهَبَ الـحَـياءُ.

يَعِيشُ المَرْءُ ما اسْتَحْيا بخَـيْرٍ.. ويَبْقَى العُودُ ما بَقِيَ اللِّحـاءُ."

،،، جَمِيل بن المُعَلَّى الفَزارِيّ.