أيام من عمر مضى (1- 5)

علي بن سـالم كفيتان

كانت مدرستي تنبض بالحياة.. إنّها مدرسة طيطام في ريف ظفار الجميل، هناك زملاء دراسة أوفياء ومدرسين من العيار الثقيل في مبانٍ متهالكة، لكن العلم كان يقدح شرارته من كل أطراف المكان أولياء الأمور رجال محاربون وكعادة أصحاب الجبال في كل بقاع الدنيا أشداء ولا تنقصهم الغلظة، والأمر لا يختلف عند الأمهات العصاميات في ذلك الدهر، أناس ذهبوا ولن يعودوا مجددا لكنهم غرسوا الأمل وأشياء كثيرة في أنفسنا، كان كل واحد من هؤلاء يقول للمدرس إذا لم يستجيب لك ابني فضربه حتى يهتدي للطريق القويم لا نقاش ولا جدال في الأمر لقد منح مربي الأجيال كامل الصلاحية لتنشئة هؤلاء الريفيون المحافظون، وكما قال الكاتب والسياسي السعودي الكبير غازي القصيبي في إحدى كتبه لا تستغربوا أن يأتي القادة والمجددون من الريف فالمستشار الألماني هلموت كول كان ريفياً ذا جثة ضخمة ونفس غليظة لكنّه غير مسار الحياة في ألمانيا إلى الأبد.

قضينا الصفوف الابتدائية الستة بين خيمة في وسط معسكر الفرقة وبين صنادق الصفيح والخشب، وشيّدت المدرسة الجديدة التي كانت إحدى ثمار زيارة جلالة السلطان -حفظه الله ورعاه- للمنطقة كنا نحلم بالدراسة فيها ليل نهار المبنى شيد في طرف المركز الإداري الجديد وسط السهل المنبسط على مشارف فرقة أبو بكر الصديق الشرقية التي تحرس الأمن والاستقرار في منطقة تماس هامة مع ثوار من القرن الماضي، نعم كنا نمر ونقف على المرتفع البعيد ونترقب ذلك المبنى الجميل وكل واحد منا يقول بعفويته الطفولية انا سأدرس في ذلك الصف والآخر يقول لا أنا سأختار الصف الذي في الأعلى رائحة الصبغ والتشطيبات النهائية تلف المكان وتجعلنا ننجذب للموقع لا إرادياَ وانتهى العام الدراسي وبتنا نحلم بأن نستهل الدراسة في العام القادم في هذا الصرح الحلم.

في مستهل العام التالي توجهنا للمدرسة الجديدة وكان مديرها هو مربي الأجيال الأستاذ القدير سالم بن سهيل السم.. أخذنا جولات في ربوع مدرستنا وبين صفوفها لأول مرة كانت هناك ثلاجة للماء البارد في الزاوية بحنفياتها الأربع ولونها الفضي الجميل ينساب منها الماء زلالاً للشاربين وما أكثرهم في ذلك اليوم وبعد مراوغات الطلبة لزيارة الثلاجة اُتخذ قرار بأن يحرسها الطلبة على هيئة مناوبات؛ ولسوء حظي وقع الاختيار الأول عليّ في ذلك اليوم وقفت بالقرب منها وأشرب بين الفينة والأخرى بينما يرمقني المارة بأعينهم حسدا على هذه المكانة الرفيعة. أتاني أحدهم متسللا راجيا أخذ رشفة والآخر لديه كوب وآخر لديه "صحلة" قديمة جلبها من الجوار، والثالث أحضر "جلن" عسكري يسع 23 لترا بناء على توصية من والده، وهذا هو الذي ورطني في ذلك اليوم؛ لم أستطع الصمود كثيراً في هذه المهمة الصعبة ولذلك عزلت منها غير آسف عليها، وطلب المدير الاستعانة بأحد أعضاء الفرقة لضبط الأمر حول الثلاجة الفضيّة؛ لكن الرجل عانى مما عانيت وخاصةً بعد أن تولدت حيل لدى الطلاب ومنها أن يطلب أحدهم من هذا الرجل الطيب أن يجيب رجلا آخر يناديه من خارج سور المركز أو يصفوا له بقرة وضعت ابنها للتو في أحد البراري المجاورة مما يحتم عليه الذهاب لحفظ ابنها من الذئاب، وعند انسحاب الحارس ينطلق الجميع للثلاجة ويتزودوا منها، وقد شاهدت بأم عيني طلبة ينطلقون كالرصاص من وسط الحصص لهذه المهمة بينما يقف الأستاذ مذهولاً أمام هذا الظاهرة العجيبة، وقد ترتب على ذلك كثرة التردد على دورات المياه وقلة المردود العلمي.

نوقش الأمر على نطاق واسع بحضور قائد الفرقة وبعض أولياء الأمور، وتمّ الاتفاق لنقل الثلاجة من الساحة العامة إلى قرب باب غرفة المدرسين، وبهذا استتب الأمن المائي في مدرستنا بعد شهر ونيف من الكر والفر.

الخبر غير السار الذي أتانا في العام التالي أنّ المدرسة لن يكون متاحاً فيها استكمال المرحلة الإعدادية، وعلينا أن ننتقل إلى مدرسة غدو التي تبعد عنا مسافة كبيرة بمنطق ذاك الزمن ولا نعرف فيها أحداً، حاولنا الاعتراض ولكن دون جدوى كنا على ما أذكر في حدود 15 طالبا وبموجب هذا القرار تراجع عدد منهم عن الدراسة وانخرطوا في مساعدة أهاليهم وعمل معظمهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية لاحقاً. صمد منا حوالي نصف العدد فقط وكانت أكبر معضلة هي النقل إلى النيابة المجاورة. بالنسبة لي تكفّل أخي الأكبر (محمد) الله يحفظه الذي كان يعمل في الجيش بنقلي معه صباحا أثناء ذهابه للدوام اليومي؛ حيث نغادر البيت في الرابعة فجراً وأكمل بقيّة نومي تحت شجرة التين العملاقة أمام مدرسة غدو بينما يحضر الباقون تباعاً ونرجع في نهاية اليوم عبرية على الشارع حتى مفارق طرق منازلنا، ومن ثم كل واحد منا يطلق سيقانه للريح حتى بيته. من الأشياء الجميلة أننا وجدنا في هذه المنطقة أناسا طيبين محبين للخير رجالا ونساءً على حد سواء، ولا يكاد يمضي يوم دون أن يستضيفونا في مخيّماتهم الجميلة على طول الطريق وغالبيتهم أصحاب إبل أو يوصلنا أحدهم إلى منطقتنا حتى ولو لم نكن في طريقهم. كان هؤلاء النّاس علامة فارقة في حياتنا عبر المحبة التي منحونا إيّاها والمساعدة التي يقدمونها لنا عفوياً، ولا شك بأنّ منبع ذلك هو أصلهم الطيب بالإضافة لكوننا من منطقة بعيدة، وكانت هذه من شيم الريفي الأصيل. وعلمت لاحقاً أنّ معظم هؤلاء الناس تربطنا بهم علاقات أسرية متجذرة ومواقف خالدة يصعب نسيانها.      

استودعتكم الله.. موعدنا يتجدد معكم بإذن الله.

حفظ الله عمان وحفظ جلالة السلطان..                    

alikafetan@gmail.com