قصة سارة.. الألم لا يُسقط العفة

 

علي بن سالم كفيتان

نكأت جراحي التي لم تندمل عندما رأيتها تركض عبر الأزقة والمباني المُهدمة... تبحث عمن؟ لا أدري... فهي وحيدة في هذا الفضاء الظالم تركن إلى بقايا بيت كان بالأمس يعج بالحركة واليوم يسكنه الخراب ويلفه الصمت القاتل ومع صعوبة المشهد تحاول في كل مرة شد خمارها حول عنقها الهزيل لكي لا يطّلع أحد من هذا العدم على خصلات شعرها الطاهرة هنا في غزة لا تسقط العفة مع الألم ولا تضعف النفوس أمام الفقد تجري بكل ما أوتيت من قوة من خراب إلى خراب تطل برأسها الصغير من خلف ذلك السور لترى تدافع الدخان والرماد إلى عنان السماء فالمدينة تحت القصف الوحشي الذي لا يرحم إنها الأسلحة الأمريكية الأكثر فتكاً والأشد دقة التي تنهال على يد الأنذال الصهاينة ليصبوها حمماً من السماء دون تمييز على رؤوس النَّاس وبينما الصبية الصغيرة ترى وتسمع حجم الدمار لمدينتها تلاحظ من بعيد جموع من بني جلدتها يلاحقون حزم الطعام الذي تلقيه أمريكا من السماء عبر مظلات رمادية... وهنا تسأل سارة الفلسطينية نفسها... كيف لأمريكا أن تلعب الدورين معاً؟ من هنا تدمر أسلحتها كل شيء وفي ذات المكان تلقي بفتات طعام جنودها المرابطين في القواعد التي تدعم الكيان الغاصب على الفلسطينيين العزل المحاصرين!!!       

جنى الليل الموحش وهي مندسة بجسدها الهزيل بين جدارين مهدمين تشتم رائحة الحريق ويُغطي وجهها غبار الرماد المتطاير من الدمار تسمع أصوات الكلاب الضالة تبحث عن طعام تزداد نبضات قلبها وتشعر بطنين لا ينتهي في أذنيها تبكي دون بكاء وتسقط دموعها بصمت دافعةً الرماد عن خدها الوضاء لتصنع شارعاً من الدموع المالحة تلعق دموعها وتكتم أنفاسها في صدرها الصغير وحيدة صوت الكلاب الجائعة يبتعد رويدا رويدا حتى يكاد يختفي سكن قلبها قليلاً ودخلت في نوبة نوم قصري فالجسد الشاحب والنفس المنهكة أعياها الوعي فسقطت كقتيل بين الحطام امتدت يد إلى ذلك الجسد المنهار في الظلام نهضت وحاولت أن تقاوم لكنها سكنت وهدأ روعها إنه أحد المجاهدين من كتائب عز الدين القسام التي تبحث عن المشردين بعد عمليات القصف وجدت نفسها بعد دقائق بين جموع من الأطفال في سرداب كبير ألقت عليها طبيبة المكان نظرة وصنفتها كطفل مصاب بصدمة نفسية عميقة نتيجة لفقد جميع أفراد أسرته لم تسألها الطبيبة عن أي تفاصيل فقط طلبت منها الذهاب للمرحاض ومنحتها قطعة صابون وملابس نظيفة وقالت لها ادخلي واغتسلي وبدلي هذه الثياب ففعلت بعد ذلك تجمع حولها الأطفال وقدمت لها وجبة طعام فأكلت على مضض فقط ما يسد الرمق حاولت معها الطبيبة لتأكل المزيد لكنها هزت رأسها رافضة.                         

في اليوم التالي تسللت سارة وحاولت الهروب من الملجأ لكن الحارس القسامي منعها فطلبت منه أن تبحث عن أمها وبقية أخوانها فسألها عن أبيها فقالت لقد استشهد في اليوم الأول بينما أمي وأخواني لا أجد لهم أثرا بعد قصف منزلنا وعدها أن يصحبها في المساء ويبحثان عن بقية الأسرة هدأت وعادت للأسفل وحاول كل من حولها الحديث معها لكنها ظلت صامتة وفجأة جثت على ركبتيها وحملت طفلا رضيعا كان يحبو بين تلك الجموع أجلسته على حجرها ولاعبته وصارت تناديه باسم عُمر وهو أخوها الذي كان في نفس السن بدت عليها علامات الوعي بالوضع الجديد وصارت أكثر إيجابية مع المشرفين على المكان لم تعد للقسامي المتسمر مع سلاحه في باب الملجأ لتبحث عن أهلها ربما أدركت أن الجميع قد ذهبوا وهي الناجية الوحيدة ومع ذلك... عندما تأوي إلى ركنها البعيد في ذلك السرداب الكبير وعُمر في حضنها تحلم أن تجدهم وتؤمل نفسها بالعودة إلى الحي الذي غادرته مرغمة وحيدة خائفة.   

نزحت سارة التي لم تتعدَ سن 13 مع الجموع جنوباً إلى آخر الملاذات الآمنة إلى رفح لم تتخلَ عن عُمر فقد تبنته وصارت تهتم به وأصبح هو متنفسها الوحيد في هذا الفضاء المظلم وزعت إلى مخيم بعيد مع عدد من اللاجئين هنا خيمة عليها شعار أممي وبضع بطانيات أتت من أوربا التي تتضامن مع العدو وبرميل ماء عليه مُلصق يقول (الماء محدود خذ كفايتك فقط) تقول سارة لم أجد عربيا واحدا في هذه المخيمات يهب لنجدتنا كما أخبرتني أمي ذات يوم عن وقفات الشيخ زايد بن سلطان رحمه الله الذي بنى لنا بيتنا مرتين عقب تهديمه من قبل الصهاينة وكم أخبرتني جدتي وهي تفتخر بموقف الملك عبدالله بن عبدالعزيز رحمه الله شديد اللهجة مع أمريكا بوقف الحرب على غزة في مرة سابقة فتم إيقافها فوراً وآخر الأحاديث كان عن العدوان الأخير علينا عندما قدم رئيس الوزراء المصري وعدد من طاقمه الوزاري إلى غزة متحدين الصلف الصهيوني ..سألت سارة أين هم اليوم؟ ...هل تركونا وحيدين هنا؟

*********************

قصة سارة مُستوحاة من شهادة وردت على لسان طفلة فلسطينية نزحت من شمال غزة إلى رفح، رواها طبيب سويدي بشكل مقتضب في مدونته.