قتل الفلسطينيين على أكوام المساعدات

 

علي بن سالم كفيتان

تمارس حكومات ودول ومؤسسات إعلامية بارزة ومنظمات دعم دولية نافذة أشد أنواع التعتيم الإعلامي على الهزيمة السياسية والعسكرية المدوية للكيان الصهيوني في حرب غزة الحالية التي كتبت المقاومة الفلسطينية أول سطور النصر الفسطيني في السابع من أكتوبر 2023، إذ استفادت تلك الحكومات والوسائل الإعلامية من الكم الهائل للدمار على الأرض واستشهاد ما يزيد على 30 ألف فلسطيني أعزل، في سلسلة لا تتوقف من الجرائم الشنعاء ضد الإنسانية والإبادة الجماعية التي لم يسبق لها مثيل في العصر الحديث.

لكن المشهد العسكري بكل المقاييس يصُب في صالح المقاومة، ولنأخذ في عين الاعتبار الأرقام المُعلنة لقتلى جيش الاحتلال الصهيوني الذين فاقوا 586 بين ضباط وجنود، فضلًا عن المصابين بإعاقات دائمة وحالات نفسية وكذلك الهاربين من الخدمة خشية الموت. في المقابل أعلنت المقاومة عن استشهاد عدد من قادتها العسكريين، بينما لم يُسجّل رسميًا أي استشهاد لأي مُقاتل من رجال المقاومة. ورغم التفوق العددي والتقني والدعم العالمي للكيان الغاصب، إلّا أن الخسارة التي تكبدها هي الأعلى والأكثر فداحةً منذ اغتصاب فلسطين عام 1948. وهذا ما أعلنه وزير دفاع الكيان في مؤتمر صحفي أمام وكالات الأنباء العالمية وقنوات التلفزة العالمية الأسبوع الماضي، غير أن المتابع لقنوات الأخبار العالمية وحتى الإقليمية والعربية، يرى تعتيمًا مُتعمدًا على هذا النصر العسكري والتقليل من قيمته بشكل مُلفت، وهذا ربما يحمل في مضمونه نصرًا زائفًا للكيان المهزوم، وخذلانًا للمقاومة الصامدة المدافعة عن دينها وأرضها وشعبها.

وعلى الجانب السياسي، اكتسحت المقاومة الفلسطينية الفضاء السياسي واكتسبت تعاطف الشعوب الحرة حول العالم، وعزلت الكيان وزبانيته في زوايا ضيقة. وحين ننظر للوعي السياسي لدى المقاومة وصبرها وتعاطيها مع الموقف، نجد منهجًا قلّما نجده اليوم في دول ترفع الأعلام وتُنصِّب الحكومات. وهنا أبدأُ من التعامل مع الأسرى الصهاينة الذي كان مثاليًا وأشاد به كل الذين وقعوا في الأَسْرِ، من حيث التعامل الإنساني والحرص على حياتهم من خلال توفير ما تيسر من الغذاء والدواء والرعاية، وقد كانت هذه هي الرسالة السياسية الأولى التي قدمتها المقاومة للعالم. ولا شك أنها قاسية على نتنياهو وحكومته الخائبة، التي عمدت في الجانب المقابل إلى التنكيل بالأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وكذلك الأسرى المدنيين في غزة، الذين جرى تصويرهم شبه عراة، مُقيّدي الأيدي والأرجل، ومُكدّسين في شاحنات مفتوحة أو ممددين في العراء، ويتعرضون للركل والإهانة وشتى صنوف العذاب. لكن هنا نجد أن المقاومة انتصرت وكسبت التعاطف السياسي للضمير البشري، وليس للحكومات المُنقادة خلف الظلم العالمي الذي تقوده الدول الاستعمارية الغربية؛ إذ إن قوة وصمود المقاتل الفلسطيني على أرضه ودفاعه عنها بكل ما يملك وتعامله الإنساني مع الأسرى، كل ذلك شكّل علامة فارقة في المشهد السياسي، وهذا يُدلل على أن المعركة كان مخططا لها بحنكة من قادة حماس، مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف، وتحظى بمباركة ودعم من الجناح السياسي في الخارج مثل إسماعيل هنية وخالد مشعل.

ولا شك أن عزل الفريق الذي وقّع على اتفاقيات أوسلو وإبعاده عن المشهد، حقق النصر على الأرض الفلسطينية، بعد أن مُنح قرابة 30 سنة من المماطلة وخسارة الأرض والتهجير والتهويد مقابل سُلطة شكلية لا تُقدِّم أي أمل للشعب الفلسطيني في نيل استقلاله. ولهذا نجد اليوم محاولات لإنتاج نسخة معدلة من فريق أوسلو، وتتجدد الوعود بدولة فلسطينية شريطة استسلام المقاومة وتسليم السلاح، وإعادة تموضع الجيش الصهيوني في مفاصل غزة. وهذا الثمن البخس لما قُدِّمَ من تضحيات طوال 5 أشهر يمثل خيانة كبرى لدماء 30 ألف شهيد فلسطيني، ونكراناً لم يسبق له مثيل لصمود المقاومة الفلسطينية ودحرها جيش الصهاينة المدجج بالسلاح الغربي والغطاء السياسي الأمريكي. كل هؤلاء خسروا ومن خلفهم المتصهينون العرب وهم أشد بأسًا وتنكيلًا بإخوانهم في غزة، حتى من العدو.

وهذا الموقف شكَّل بواعث جديدة لقيادة فلسطينية حُرّة تعتمد على نفسها وشعبها وإيمانها بالله، لذا نعتقدُ أن نجاح المقاومة في إطلاق سراح شخصيات بارزة من سجون الاحتلال أمثال مروان البرغوثي وأحمد سعدات، من شأنه أن يُغيِّر الخارطة تمامًا، وأن يقود لمرحلة الاستقلال والاعتراف بدولة فلسطين على حدود 1967، كحل مؤقت يؤدّي لجلاء الصهاينة لاحقًا من كامل التراب العربي في فلسطين، كما حصل في جنوب إفريقيا.

ومن المتناقضات الفجّة أن تقذف الولايات المتحدة الأمريكية مساعدات إنسانية من الجو على غزة، وهي التي تفتح مخازنها العسكرية على مصراعيها للصهاينة وتمدهم بأدق وأحدث الذخائر الفتاكة لقتل الفلسطينيين. هنا كيف لنا أن نُقيِّم هذا المشهد؟ وكيف لأمريكا أن تُبرِّرَه لشعبها وللضمير الإنساني؟

إننا على يقين بأن هذه الثورة العربية على أرض غزة جعلت أمريكا الخاسر الأكبر والمُدان الأوحد؛ فقد مارست دور الجلّاد والملاك الرحيم في آن معًا!! إذ قد نفهم مشهد إنزال المساعدات من دول عربية، رغم أن الإجرام الصهيوني مارس أبشع جريمة عندما قتل الفلسطينيين من نساء وأطفال وشيوخ، الساعين نحو الحصول على المساعدات، في مشهد مأساوي حزين يُدمي القلوب. فهل يتعظ حلفاء بني صهيون؟