مُؤشرات انهيار أمريكا

علي المعشني

بَعيدًا عن مُسلَّمات التاريخ -ومشيئة الله في تداول الأيام بين العباد والممالك والدول- والتي لا يُنكرها عاقل أو يتجاوزها، تبقى المعطيات والمؤشرات على الأرض خير دليل وأقوى شاهد على انهيار الدول، ولا يُمكن دعم القناعات وتعزيزها إلا باستحضار التاريخ وتفكيكه وإسقاطه واستنطاق المؤشرات لبرهنة ما يُقال عن حقيقة انهيار أمريكا.

أمريكا كيان سياسي مُتفرِّد عبر التاريخ البشري بنشأته وقوته وقواعد سياسته وعقائده السياسية والعسكرية؛ لهذا فليس من اليسير الحديث عن انهيار هذا الكيان وتمريره إلى عقول القرَّاء بعمومهم؛ نظرًا لما أحاط نفسه هذا الكيان بمنظومات دعائية إعلامية ضخمة ومؤثرة وغير مسبوقة في التاريخ، والتي تسببت بالنتيجة في حصار العقول وإبهارها وأسرها إلى حدِّ الاستعباد.

أمريكا -وكما هو معلوم عنها- دولة قامت على أرض مغتصبة من السكان الأصليين، ويتكوَّن شعبها من خليط لا يُحصى من الأقوام والثقافات، وإن غلب عليهم بالإكراه ثقافة العرق الأبيض الممتد للمدنية الأوروبية بعمومها، وبالضرورة اعتقد الأمريكي أنه يمثل العالم الجديد بثقافته وقوته وتطوره وعلمه ونموذجه، وهذا ما ولَّد لدى الأمريكي شعورا نرجسيا حادًّا بأنه هو العالم ومركز الكون وخاتمة الحضارة ونهاية التاريخ.

نرجسية الكيان الأمريكي أنتجت عددا من النظريات والمفاهيم والقواعد التي لم يألفها الناس من قبل ولا تخضع لمعايير وقواعد وأعراف الحكم أو العلاقات بين الدول أو القانون الدولي؛ حيث جعلت أمريكا أمنها القومي يعني العالم كله ولم تحصره بجغرافية بعينها كما تقتضي أصول ومفاهيم الأمن وقواعده العامة، وجعلت العالم بأسره مستباحا منها، وجعلتْ نفسها الشرعية الدولية ونصبت نفسها المتحدِّث الحصري باسم المجتمع الدولي والضمير العالمي، وجعلتْ من مفهوم قوَّة القانون قانون القوة. رفعت أمريكا شعارها الأزلي في علاقاتها مع الآخر وهو "من ليس معي فهو ضدي"، وترفض الندية في تعاملها مع الحلفاء والأصدقاء وتطبق نظرية السيد والخادم فقط. لهذا لخص وشخص الرئيس الباكستاني الأسبق أيوب خان تلك العلاقة الموتورة وغير المنطقية بين بلاده وأمريكا في كتابه "أصدقاء لا أسياد"، بينما وصف خلفه الجنرال ضياء الحق من يتعامل مع أمريكا بعبارته الشهيرة: "من يتعامل مع أمريكا كمن يتاجر في الفحم، ليس له من تجارته سوى سواد الوجه والكفين".

هذا الشعور والتوصيف ليس حكرًا على باكستان وحدها، بل شعور وتوصيف ونتيجة كل من تعامل مع أمريكا تحت اسم حليف أو صديق أو تابع في السر أو العلن.

الشعبُ الأمريكيُّ يظهر على سطحه وكأنَّه أمَّة واحدة وشعب واحد، وهو بالفعل كذلك بمفهوم العقد الاجتماعي في التشريعات الأمريكية السارية، لكنه في حقيقته خليط من الملل والنحل تربو على الـ2000 طائفة دينية وشعوب تنتمي لثقافات وجغرافيات مختلفة. ورغم ترويج الأمريكان لهذه الفسيفساء المتنافرة على أنَّها ثراء وقوة في تجلٍّ واضح لجهلهم بمسلمات التاريخ ونواميسه إلا أن ما يصنع ذلك التماهي والانسجام والتناغم بين تلك الأطياف هي المصالح والعدالة الاجتماعية بشقها المادي وترف الحياة الأمريكية؛ الأمر الذي أجبرهم على السعي الحثيث للحفاظ على تلك المكاسب وصونها ووصف مظاهرها بصفات تجافي الواقع حيث إنها لم تختبر لتفرز على محك الحقيقة والثبات والرسوخ.

الشعبُ الأمريكيُّ اليوم لم يعُد ذاك الشعب المغفل والمغيب عن سياسات دولته وتحالفاتها المشبوهة وحروبها القذرة في الخارج، رغم سياسات الكذب والتضليل الهائلة التي تمارسها الحكومات الأمريكية المتعاقبة على شعبها لحجبه عما يدُور في الخارج ودفعه للانغماس في شأنه الداخلي ومنذ نكبة أمريكا في فيتنام بالتحديد.

حربُ الخليج عام 1991م يُمكن أن نسميها العام والحدث الفيصل في تاريخ الوعي الشعبي الأمريكي وإطلالته على ما يدور في العالم، وما تلى ذلك من حروب بالوكالة والمموَّلة بالكامل من قبل من يسمون بالحلفاء الإقليميين في أفغانستان والعراق ثم سوريا وليبيا فاليمن.

الرأيُ العام الأمريكيُّ اليوم أصبحَ يقود مظاهرات ويشكل جمعيات أهلية رافضة للسياسات الأمريكية في الخارج، وهذا لم يكن مطروحًا قبل ثلاثة عقود من الزمن لولا ثورة الاتصالات في العالم وصعود أصوات حرة وتدفق مطبوعات جريئة تهاجم وتفضح السياسات الأمريكية وتحالفاتها المشبوهة في الخارج.

الشعبُ الأمريكيُّ اليوم يُدرك أكثرَ من أيِّ وقت مَضَى أنَّه مُجرَّد كومبارس سياسي بيد اللوبيات والمجمع الصناعي العسكري الأمريكي والذين يقتاتون من الحروب والأزمات والخراب والدمار، وهذا بطبيعة الحال لابد أن يشغل كل إنسان سوي في لحظة ما ويجعله يراجع قناعاته وجدوى صمته إزاء تلك الجرائم.

أمريكا اليوم مُصَابة بكل أعراض عجز القوَّة الإستراتيجي وأكبر هذا الأعراض والمظاهر هو عجزها عن خوض حرب حقيقية منذ خروجها منهكة ومنهارة من العراق عام 2011م، وبالتالي لجأت إلى الحروب بالوكالة عبر أدواتها الأقليمية كان آخرها داعش وأخواتها والتي تمثل السقوط الأخلاقي الكبير لدولة بحجم أمريكا وقوتها وقيمها التي تتشدق بها منذ نشأتها وتسوقها للعالم.

أمريكا اليوم تستطيع بالقوة العمياء تدمير إيران أو سوريا أو حزب الله أو كوريا الشمالية أو غيرهم ولكنها في المقابل تدرك أن إقدامها على فعل كهذا في هذا المفصل التاريخي يعني رفعها لشعار نيرون "علي وعلى أعدائي"، وهذا ما تجلى في تهديدها بضرب سوريا عام 2013م ثم تراجعها المعيب بعد قراءتها لرسائل واضحة من الطرف الآخر والمتمثل بحلف المقاومة وممكناته وخياراته الموجعة للرد.

الأمريكي اليوم بدأ يدرك أن شيئًا ما قد حدث لتراجع بلاده عن قيادة العالم حين يرى الغزو الصيني التجاري لبلاده، ناهيك عن هروب آلاف الشركات الأمريكية إلى الصين وتركيا والمكسيك وفيتنام وحتى بنجلاديش بحثًا عن مناخات اقتصادية أكثر ربحية وأمانًا، ناهيك عن قيام عمالقة منافسين للنفوذ الأمريكي كمجموعة بريكس.

والأمريكي اليوم بدأ يدرك أن بلاده لا تدار بالقانون كما كان يعتقد بل بنفوذ اللوبيات؛ فمجرد إحجام عدد من الرؤساء الأمريكيين المتعاقبين وخوفهم من توقيع قانون تقنين حمل السلاح الفردي للحد من الجريمة بناء على تهديد صريح من لوبي السلاح في أمريكا يؤكد أنَّ القانون غائب في أمريكا مقابل نفوذ اللوبيات.

التفاوت الكبير في دخول الولايات الأمريكية وصراعها مع الحكومة الفيدرالية بواشنطن على توظيف تلك الدخول وأحقية كل ولاية بدخلها في إطار النظام الفيدرالي الأمريكي لم يعد صراعًا سلميًّا ومؤسسيًّا كما كان، بل بدأ يطفو ويتعاظم كل يوم، فولاية ككاليفورنيا مثلًا تدر على الخزينة الفيدرالية أكثر من تريليون دولار سنويًّا لا يُمكنها السكوت على توزيع دخلها على ولايات لا يتعدى دخلها بضعة عشرات من المليارات سنويًّا، من هنا بدأنا نسمع عن مطالبات الانفصال لبعض الولايات الأمريكية ولأول مرة في التاريخ الأمريكي وبعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، وهذا مؤشر خطير على نذر حرب أهلية قادمة أو سيناريو تشطيري لأمريكا أو مراجعات حادة تقلب المعادلات للسياسات الأمريكية في الداخل والخارج.

أمريكا اليوم تُعَاني بحق من وهن بنيوي حاد يصيب جسدها ويمتد لحلفائها الإقليميين في الوطن العربي، هذا الوطن الذي يمثل ركيزة ومحور الإستراتيجيات الأمريكية في بعث الحروب وافتعال الازمات والمؤامرات وترويع الحلفاء وابتزازهم؛ فكيانها الصهيوني أصبح في مَرْمَى النيران من قوى أقليمية ند وقاهرة له، والأدوات الرديفة لهذا الكيان تنهشها الأطماع والاقتتال والتنابز فيما بينها.

وأمريكا اليوم أعجز ما تكون عن نقل إستراتيجيتها إلى جغرافيات أخرى أشد فتكًا وقوة في الردع والمواجهة، وأعجز من أن تجد لها حليفًا حيويًّا قويًّا وفاعلًا في منطقة الشرق الأوسط يعينها على تمكين سياساتها وحراسة مصالحها كإيران الشاه مثلًا، فكراهية أمريكا أنتشرت في العالم وجعلها كالداء والوباء وتشجع صغار الحلفاء والادوات على قول "لا" لها في ظل صعود كبار آخرين وأفول نجم أمريكا.

أمريكا اليوم لم تعُد تُرْعِب الكبار وتهدِّدهم، بل أصبحت عاجزة تمامًا ومشلولة أمام التحدِّي الكوري الشمالي، وعاجزة عن حماية حلفائها في الجوار الكوري.

أمريكا اليوم لا تستطيع مُعَاقبة كوريا الشمالية وفرض حصار دولي اقتصادي عليها؛ لأنَّ ذلك يعني معاقبة الصين والتطاول عليها، والصين تمتلك 90% من التبادل الاقتصادي مع كوريا الشمالية، وأكثر من 600 مليار دولار مع أمريكا، ناهيك عن السندات الصينية؛ أي أن الصين هي من تمتلك وتقرِّر مصير أمريكا وليس العكس.

الخطرُ الحقيقيُّ على العالم والبشرية ليست من كوريا الشمالية أو من تقرِّره أمريكا، وكما ترِّوج آلة الدعاية الأمريكية لحرف الأنظار وتضليل العقول، بل الخطر من سُعار أمريكا وشعارها لحظة ما تقرر الانتحار أن تنحر معها من تطولهم بأيديها وسلاحها ونفوذها كنتيجة حتمية ليأسها الكبير وخذلان الحلفاء وتنكر الأصدقاء وإدبار الزمن معًا.

يقول الكاتب الأمريكي بول فندلي: "كل الدول انطلقت في نشوئها من البدائية إلى الرقي، ثم الانحلال، ما عدا بلدي أمريكا انطلقت من البدائية إلى الانحلال".. وبالشكر تدوم النعم!

Ali95312606@gmail.com