عش عربا.. ترى عجبا!

سلطان الخروصي

يبدو أنّ الدين بات لا يحظى بالتقديس لدى بعض العرب فأضحوا يبحثون من خشاش الأرض عمّا هو أرقى وأنقى منه ليوغلوا فيه صنوف التقوى ورحيق النقاء وهو بريء منهم كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب؛ وكأنهم بذلك يتسابقون لنيل "صكوك الغفران" وحجز ما أمكن لهم من إقطاعيات فارهة في جنّات ربّ العالمين ولسان حالهم "كرتك سرّ نجاتك".

فلا يستغرب إن صمّوا آذانهم وأسملوا أعينهم وقطعوا ألسنتهم عن الخوض في صرخات وآلام جموع المشرّدين والمعدمين ومن تقطّعت بهم السبل من سوريا الشهباء أو العراق العظيم أو ليبيا الصمود أو مصر التاريخ أو يمن الحضارات؛ حيث تسوقهم قطارات السماسرة وتعرضهم في المزاد لتعزّ من تشاء وتذلّ من تشاء بينما تشظى العرب عن فتح أبواب إيواء بني جلدتهم ولهم عذرهم في ذلك لقلة الموارد وانعدام الأراضي البيضاء التي يمكنها أن تلملم بقايا عظام بالية أنهكتها الحروب والنزاعات، فاكتفى العرب بأسطوانتهم المشروخة بتمجيد تاريخهم الغابر متوشّحين رائحة الكرم والنخوة والشهامة.. فيا عجبا لشعوب العرب ألا تملأ أعينها هبات بعض الأنظمة العربية على طبق من ذهب منزّلة من رب السماء اسمها "الحرية"؟!، فليأكلوا منها حتى تصاب أجسادهم بالتخمة ولا ضير إن تبعثرت بعض أشلاء الطفولة على سواحل البحر المتوسط كأرسلان وغيره فهؤلاء شذر من قربان الشعوب المتنعّمة بفردوس أنظمة بعض العرب المستعربة!

لا تنصتوا إلى من يدّعي أن واقعنا ينطبق عليه المثل: "على نفسها جنت براقش"؛ فالمليارات التي بذخت بسخاء ولا تزال الفاتورة في ازدياد لتسليح المؤسسات والقطاعات العسكرية من عدّة وعتاد لمواجهة العدو المحوري (الكيان الصهيوني) تغيّرت بوصلتها (لتطهّر) بعض العقول والأفكار السمجة في مجتمعنا العربي والإسلامي!، فلا تصدّقوا أنّ الصهاينة هم من يتربّصون بنا الدوائر فهم من الشعوب السّامية المحبة للسلام!، ومسألة المسجد الأقصى والهيكل المزعوم هي قضية خلافية وجدلية فلربما يصدقون القول أو يجانبهم الصواب فاعتباره عدونا الاستراتيجي هو تفكير (ضحل) يعيدنا لزمن (الطيبين).

لا تأخذوا الأمر على محمل الجديّة حينما كانت بوادر الغضب الجماهيري بسوريا في بداياتها وكانت الجموع تطالب بالعدالة الاجتماعية وتحسين مستوى المعيشة، فلم يبادر العرب لاحتواء الموقف وتدعيم أركان الدولة والمؤسسات العصرية في هذا البلد الأشمّ، فترك الحبل على الغارب حتى إذا ما انفلت الأمر وأصبحت مدن سوريا الشامخة في العراقة والتاريخ والمجد لا تعدوا سوى (كنتونات) أشباح، حينها استمطرت خزينة قارون لإغراق البلد بالمرتزقة والمدمنين والمنشقّين، وتدفقت أنهار الأسلحة بمختلف أصنافها لتطحن البلاد والعباد، فالواقع يقول أن تقتل الحياة وتختزل مؤسسات الدولة والقانون بكلمات خفيفة على اللسان ثقيلة على التاريخ والأخلاق: "يا نحن يا بشّار" فلا تهتموا كثيرا بالإنسان قبل رحيل بشار وإن حرقت سوريا من أقصاها إلى أقصاها، المهم من يصرخ أولا بعد غرس الأنياب فبناء العقل أرقى وأبقى من بناء الحجر ولا يتأتى ذلك إلا بالنار والحديد!

علينا أن نؤمن بالسياسة العربية الحكيمة أنّ ما يحصل في اليمن ليس محرقة للوحدة الوطنية التي تكللت بالنجاح في 1991م بعد حروب أهلية أهلكت الحرث والنسل، فما يسقط الآن من قنابل في اليمن ما هو إلا عربون وفاء طال انتظاره ليكون اليمن سعيدا بعد "تطهيره" ممن لا يروقون لبعض أمزجة دول الحلفاء، وها هو اليمن يرتع بجحافل الجيوش فيدخلونها دخول الفاتحين. لا ضير اليوم بأن تطحن البنية التحتية وتتناثر بعض الجثث وتدمر مؤسسات الدولة والقانون في سبيل بناء نموذج (ديمقراطي) على غرار النموذج العراقي وربما أكثر رقيّا، فلا يهم أين تسقط قذائف المدفعيات والبوارج والطائرات فهي كلها سهام "طاهرة" لدحض "الفئة الضالة"، فالقوات المتناحرة تسعى لتحرير اليمن من أبنائها فما المستغرب من ذلك!

لا تأخذك العزة بالإثم حينما تسمع بعض المثقفين من أبناء العرب يتهمون بعض رجالات الدين (بالتعرّي) من لباس الدين الساتر الوقور؛ فيحدّثون النّاس بأن قول النبي الكريم في خطبة الوداع "دم المؤمن على المؤمن حرام" يحمل التأويل، لكنهم يبتّون في الفتوى بحزم وعزم شديدين حينما يتصل الأمر باستباحة دم وعرض مخالفيهم!، فأعراضهم وأموالهم ودماؤهم حلال وإن كانوا يوحّدون الله ويؤمنون بحق رسالة نبيه الكريم، فلا غرابة من أن "تنبح" حناجر بعض مشاهير القنوات الدينية بالجهاد في سوريا والعراق واليمن وليبيا ومصر فتضخّ أنهارا من الأموال في سبيل القتل والتدمير والتمزّق والتشرذم واستباحة الأعراض تارة باسم الجهاد وأخرى باسم السبايا والغنائم حتى إذا ما انجلت الغمّة قبضت الأيادي ولم يخرج دولار واحد للبناء والتنمية!

لا تصدّقوا أنّ عالمنا الإسلامي والعربي يموج في بحر الطائفية والمذهبية والنعرات القبلية وإن استغلت مراقد الأئمة الكرام وعلى رأسهم سيدنا علي (كرم الله وجهه) في التحريض على المخالفين واستنهاض حميّة الجاهلية بالتمذهب على حساب الوطن وكرامة الإنسان، أو انتهكت قدسيّة الحرم الشريف في بيت الله العتيق أو في أعظم مشعر بالحج حينما وقفت جموع المسلمين ذات يوم بعرفة الطاهرة تبتهل إلى رب العالمين لتصدح حنجرة من يقف مقام النبي الأعظم فيبدأ يفصّل الإسلام على الناس بين ضال ومهتد، بل الأدهى والأمرّ حين تستثمر الأجساد الطاهرة التي فاضت إلى ربها في مشعر منى ذات يوم للتنابز بالمذهبية وتمرير أجندة سياسية مقيتة، وكل ذلك أمام عظمة خالقهم الذي أمره بين الكاف والنون!

نحن في موقف لا نحسد عليه من التخلّف العلمي والفكري والتصحّر الديني والجهالة الاجتماعية والاضمحلال الثقافي والتخبط السياسي والإعلامي، كل هذه الصورة القاتمة لا تعني بالضرورة أن نكون ذلك الحمل الوديع الذي تتقاذفه أيدي الصديق والعدو، فنحن بحاجة إلى إعادة ترميم بيتنا الإسلامي والعربي وأن تكون قيم المواطنة هي الفيصل للاحتكام وتحقيق المصالح المتبادلة، فكيف لمرء تسيل دموعه في جنح الظلام طالبا الغفران من ربه وبالنهار يستحلّ دم إنسان حرم الله سفك دمه بدون وجه حق "فمالكم كيف تحكمون"؟!

[email protected]