حينما تفكر عُمان بصوت مسموع

 

 

د.سلطان بن خميس الخروصي *

Sultankamis@gmail.com

هناك مثل عربي يقول: "اجلد السرج لكي تحمل الحصان على التفكير"، ويقول الفيلسوف الألماني كارل يونج: "التفكير صعب، لذلك فإن معظم الناس يطلقون الأحكام"؛ فالتفكير بعمق وخبرة ومسؤولية هو عملة نادرة في كثير من مواقف الحياة في عصرنا الحالي، بينما التسرّع والاندفاعية كثيرا ما تخلق جوَّا مشحوناّ وعواقب وخيمة لا يُحمد عقباها؛ بل قد تكون نابعة من فلسفة عدوانية أو جهل وقلة خبرة وعدم الاستفادة من التجارب، وإن أعظم نماذج التفكير هي التي تكون على مستوى رفيع يتجسّد في الدول وسياساتها ونماذج تعاملها مع متغيرات المرحلة وكثرة الضجيج.

وفي الآونة الأخيرة، برزت مجموعة من مرتزقة الأقلام وأشباه المثقفين وشذرٌ من الصحف الصفراء ليس في جعبتها إلا التشكيك في قيمة عُمان السياسية والإستراتيجية مستشهدة ببعض فتات التقارير الصحفية البالية، متاجرة بالكثير من قضايا العمق العربي والإسلامي، ومستعِرة بحفنة من الدولارات وبيع الذمم أو متربِّعة على عرش الصمت القاتل في غير موضعه، فنجد من يسيل مداد قلمه المأجور للتشكيك في موقف من دخل أهلها الإسلام طواعية دون إكراه في قضية فلسطين، وتارة في إلحاق تهمة دعم الحركات الراديكالية في اليمين والعراق وغيرها، وأخرى في تجريد شخصيات عُمانية في أصلها وفرعها، ومرات عديدة في تقزيم التنمية العمرانية والتطاول في البنيان والمرافق الترفيهية وغيرها في سبيل تقزيم هذا القطر العالمي الأشم، ومحاولة في غرس ثقافة الانهزامية وتقزيم الدور العُماني المشهود، وفي مقالنا هذا نضيء لهم نذرٌ يسير عن ماهية فلسفة الحياد العُماني والمواقف المسؤولة تجاه الكثير من قضايا الأمة، لنزيل الغمامة والغشاوة عن أعينهم السمِلة، ونُلقِّم أفواههم شذرا من تُراب عُمان العظيمة، ونُضيء بمكنونات الفكر العُماني قلوبهم وأفكارهم السمجة المكفهرة بالحقد والضلال والجهل، ولن نغور في التاريخ العُماني الضارب في القدم بل سنكتفي بعهدها الحديث الزاهر خلال خمسة عقود ونيف.

فحينما ضجَّ العرب وزمجروا بخيانة مصر للقضية الفلسطينية بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد في 1978م ودعوا بعضهم البعض لمقاطعتها ومحاصرتها كان صوت الحكمة والمسؤولية في عُمان يرفض هذا السلوك ويُعزِّز من قيمة السلام والتفاهم، وفي العام 1979م وإبان غزو السوفييت لأفغانستان هبَّت الدول العربية بوجه عام والخليجية بشكل خاص لدعوات الاستخبارات الأمريكية الكاذبة بإرسال خيرة شبابها لقتال السوفييت ونُصرة المسلمين وأصبحت أمريكا حينها شيخ الفتوى فطحنت رحى الحرب مئات الألوف من الشباب الواعد ليكونوا بعد حين شوكة في خاصرة دولها بل ويصبحوا منبوذين وملاحقين من قبل أنظمتهم السياسية، في وقت دعت عُمان إلى عقد مؤتمر سلام وعملت على جمع تبرعات إنسانية لبناء المستشفيات والمدارس والمنازل، وفي حرب الثمان سنوات الطاحنة بين إيران والعراق (1980- 1988م) هبَّت الدول العربية وبالأخص الخليجية منها بأموالها وجيوشها للوقوف في وجه من يختلف عنها مذهبيا دون الاهتمام بقيمة استقرار دول الجوار والمنطقة بينما رفضت عُمان المشاركة في هذه الحرب العبثية الفوضوية لأي طرف أو استخدام أراضيها لتحقيق مصالح للحرب، وفي العام 1984م تقدمت سلطنة عُمان لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربي لتشكيل قوة خليجية مكونة من 100 ألف مقاتل لحماية المصالح الخليجية والتقليل من الاعتماد على القواعد الأجنبية لكن المقترح رُفض من الأشقاء في الخليج!، وفي العام 1990م وحينما غزا العراق الكويت وتشكَّل الحلف العربي بدعم أمريكي – أوروبي لتحرير الكويت ومقاتلة العراق وفرض الحصار عليه لاحقا لسنوات طويلة كان الرفض العُماني بالمشاركة في صراع الأشقاء حاضرا وبقوة؛ حيث قام وزير خارجيتها بزيارة الرئيس صدام حسين من أجل إيجاد حل دبلوماسي يوقف شبح الحرب الطاحنة، وفي العام 1994م وبعد تفكك يوغسلافيا وقيام المتشددين بإبادة المسلمين فيها أرسل العرب شبابها القادمين من أفغانستان وبإيعاز أمريكي للدفاع عن المسلمين بفتوى الكونجرس الأمريكي بينما أخذت عُمان على عاتقها جمع التبرعات الإنسانية دون المشاركة في هذه الحرب العبثية، وفي العام 1998م قامت القوات الأمريكية بقصف العراق فيما عرف بعملية ( ثعلب الصحراء) وفتحت الدول العربية مطاراتها وموانئها للدعم اللوجستي بينما رفضت عُمان أن يكون برها وبحرها وسماؤها جسر عبور للموت والقتل.

وفي أحداث سبتمبر من العام 2001م، وبعد تدمير برجي التجارة العالمي في أمريكا، كانت القوائم تُظهِرُ تورُّط أغلب الدول العربية بينما خلت من أي اسم عُماني، وتقود الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2002م تحالفا دوليا لتدمير أفغانستان بذريعة مقاتلة حركة طالبان وبدعم عربي كبير بينما امتنعت عُمان عن المشاركة إلا للأمور الإنسانية والإغاثية. وفي العام 2003م اجتاحت واستباحت أمريكا العراق ولا يزال الدعم العربي قويا وعُمان خارج النص في هذه الحرب المجنونة. وفي العام 2006 يجتاح الكيان الصهيوني لبنان وسورية أمام صمت ودعم عربي واستنكار وإدانة عُمانية صريحة. وفي العام 2017م وحينما فُرض الحصار والمقاطعة على قطر بسطت عُمان ذراعيها واحتضنتها بدافع الأخوة والمحبة. وفي العام 2019م وحينما أعلن ترامب نيته نقل السفارة الأمريكية إلى القدس في إشارة لتصفية القضية وغلق هذا الملف رغم أنف العرب كان موقف الدول العربية الاستنكار والاستهجان بينما أعلنت عُمان عن موقفها الرافض لتصفية قضية الوجود للعمق العربي والإسلامي بل وتعلن فتح سفارة لها في رام الله كإشارة واضحة بحق الدولة للفلسطينيين رغم استهجان الكيان الصهيوني وأمريكا ودولا عربية متواطئة. وفي العام 2023م حيث طوفان الأقصى الذي أسمع العالم أنين الفلسطينيين وحقهم المسلوب طوال سبعة عقود ونيف وأمام الإبادة الصريحة للحياة في غزة خصوصا وفلسطين عموما وسكوت الدول العربية وصمِّ آذان علمائها ومثقفيها وكتَّابها وشعرائها كان الموقف العُماني واضحا وصريحا بمنع الطائرات الصهيونية من المرور بأجوائها والمطالبة بمحاكمة مجرمي الحرب والحرية المطلقة للمواطنين في الخروج بالمظاهرات والمقاطعة الشعبية للشركات والمنتجات الداعمة لهذا الجرم، وإقامة صلاة الغائب حتى هذه الساعة دبر كل صلاة جمعة، والدعاء والنصرة بالمال والمواقف السياسية والدبلوماسية.

إن كل ما تقدم ذكره وما خفي أعظم يشي بجزء كبير من العمق السياسي والإستراتيجي والإنساني للموقف العُماني المسؤول والمتوقد بالحكمة والخبرة؛ فلا يمكن أن تُغطًّى الشمس بغربال، ولا يمكن لتاريخ عُمان ومواقفها المشرِّفة أن تُختزل ويُقيِّمها صغار القوم وشراذمة القلم والفكر وتُجَّار الحروب والذمم.

* باحث وكاتب