"وسقطت دولة الخرافة"

عبدالله العجمي *

لعلَّ أكثر ما حزَّ في النفس، خلال السنوات الماضية، هو الحالة العامَّة بالعراق، عِراق الحضارة، عِراق الرَّافدين، بما يحويه من آثار شاهدة على عراقة هذا البلد ثقافيًّا وحضاريًّا؛ إذْ تمَّ التعدِّي على هذا الشاهد الحضاري والإنساني بصورة تُدمي القلب، ليس لشيء إلا لتشويه جمالية تاريخه الذي لطالما كان شعاعاً فكريًّا ومعرفيًّا ذا أبعاد مُتعددة، والقارئ لتاريخ هذا البلد يعلم أنه -وعلى مرِّ التاريخ- قد تعرَّض للكثير من الغزوات وحِيْكت ضده من المؤامرات الكثير، كان آخرها ما أطلق عليه تنظيم "داعش"، الذي استهدف ما بقي من آثاره وميراثه التاريخي والثقافي، ولم يُعِر أي اهتمام بالجانب الإنساني، واشتدَّ عُوده لدرجة أن الواحدَ مِنَّا كان يسأل نفسه -في خضم كل ذلك- متى سيتوقف مسلسل الدمار والقتل تجاه بلدٍ ما إن يُجبر كسر ساقٍ له حتى تُكسر ساقه الأخرى؟ ليبقى النزف من جراحه مُستمراً، فلا يكاد يخلو بيت فيه من صورة لفقيد أو ذكرى لشهيد.

ومنذ أن أعلن أبو بكر البغدادي قيام دولته من جامع النوري بالموصل، آثر أبطال العراق إنهاء المعارك التي خاضوها بكل بسالة وشجاعة في نفس المدينة ونفس الجامع.. ليصرخ العراقيون بملء فيهم:  "وسقطت دولة الخرافة".

... إنَّ المرحلة المقبلة أهم وأخطر بكثير مما مضى؛ فالانتصار الكبير الذي تحقق يستصرخ كل عراقي غيور على بلده أن يحافظ على هذا الانتصار بما يملكه من وسائل، لأنه في واقع الحال يُسهم في الحفاظ على أصالة هذا الشعب وتاريخ وجوده، فبعد أي انتصار سنجد من يحاول استغلاله وحرفه عن هدفه، وهناك من يدنسه بخيالاته المنحرفة محاولاً العبث بمجهودٍ صنعته سواعد أبية أهدتنا هذا النصر، وكأنما هو امتداد للعداء الأزلي بين الجهل والمعرفة وبين الظلام والنور.

إنَّ العراقَ اليوم في أمسِّ الحاجة لتكاتف أبنائه بجميع أطيافهم، وأن يكونوا على قدر المسؤوليات التي فرضها عليهم هذا الانتصار التاريخي، وأن يصعدوا -كلهم دون استثناء- على منصة الوعي لما بعد هذه المرحلة، ويريد أيضاً من أبنائه الالتفاف حوله، بجميع طوائفهم؛ فالوحدة الوطنية والتكاتف والتعاضد والتكافل هي أكبر خدمة تقدم للعراق العريق، وفي هذه المرحلة ستُختَبَر مصداقية النفوس، ولنوقن أن التاريخ لا يرحم، لأنه مثلما سيلعن المتخلفين والذين تخاذلوا، سيُمجِّد الشرفاء والمخلصين بالمقابل. وإنَّ هذا العراق بتاريخه وحضاراته هو ملكٌ للعراقيين، فهلا أسهمتم في تضميد جراحه وجبر كسوره ليقف على قدميه دون عون من أحد؟!

لستُ هُنا على مِنبر الحماسة بهذا الانتصار لألقي خطبة أجيِّش بها النفوس، ولكنَّ الحقَّ يُقال: العراق يعيش اليوم لحظات تاريخية؛ فالمؤامرات التي كانت تحاك ضده وتستهدف رسم قراراته، وطمس آثاره وتغييب تاريخه وخطف حاضره ورسم مستقبله، لا تزال حاضرة على طاولة المؤامرات ضده.. وإنَّ طبيعة هذه المرحلة تفرض على جميع أطياف المجتمع العراقي الالتفاف حول وطنه؛ فهذا وقت الانتصار للوطن ووحدته ووضع الخلافات جانباً، ولعلكم لاحظتم أن كل الاعتداءات التي حصلت على سيادة العراق لم تستهدف طائفة بعينها، بل استهدفت العراقيين بكل طوائفهم، وإنَّ الانتصارَ الحقيقيَّ هو الانتفاضة على النفس بألا نتمرتس خلف خطابات يمكنها أن تؤذي هذا الوطن؛ فمصيره أمانة في أعناقكم، ولن يتأتى لكم المحافظة عليه إلا بالوحدة والتعاون لحمايته.

إنَّ هذا البلد الجريح الذي لا يزال ينزف، يستصرخ الجميع أن ينسى ويتناسى جميع مصالحه السياسية والحزبية؛ فالتجارب أكدت أن التعايش بين مكونات أي مجتمع هي ما تستطيع التحكم بالاستقرار والازدهار.

ونحنُ حينما يتبادر إلى أذهاننا بلدٌ كالعراق، فإننا نستذكر منه تاريخه الجميل بعنفوانه الفكري والثقافي، ونأمل أن يعود هذا البلد إلى أفضل مما كان عليه، فليست هذه أول مرة يتعرض فيها لمؤامرة، ولطالما صبر وتحمل الشعب العراقي كثيراً، وما عليهم إلا مواصلة هذا الصبر والتحمل؛ فالمخلصون كُثرٌ، والجميع يعول عليهم وعلى وعيهم في الوقوف سدًّا أمام كل الأخطار المحدقة بهم، بعدما جربوا وذاقوا ويلات الانقسام والحروب، واليوم ومع هذا الانتصار المفصلي أتتهم الفرصة لينطلقوا ويوظفوها في خدمة وطنهم ووحدتهم وتعايشهم، متحدين كل المؤامرات والخطط الظلامية، التي تريد أن تُبقي العراق يدور في فلك العُنف والاستنزاف طويل الأمد.

فهلَّا تفطَّن العراقيون لهذه اللحظات الفارقة وتداعياتها على حاضرهم ومستقبلهم؟! وهلَّا تنبَّهوا لعِظمَ المسؤوليات الملقاة عليهم؟!

* رئيس لجنة الثقافة والتعليم بالاتحاد العربي الإفريقي للإعلام الرقمي