"... بأرضنا يستنسر"!

 

 

مُحمَّد رضا اللواتي

 

الكلمتان أعلاه في عنوان المقال من مجموع أربع كلمات تتشكل منها حكمة عربية قديمة وشهيرة؛ وهي: "إن البُغاث بأرضنا يستنسر"، أطلقها العرب على أؤلئك الذين هاجروا إلى ديارهم بحثا عن كريم العيش، ولكن ما إن اشتدت شوكتهم وقوى كيانهم، إذا بهم يتحكمون حتى في مواطني تلك الديار!

"البُغاث" الضعيف بات نسرا ضاريا الآن في أرضنا! هذا الذي تريد أن تقوله هذه الحكمة.

ويعتقد اليوم العديد من المواطنين العمانيين ممن يعملون في القطاع الخاص أنَّ حالهم مع بعض "الجاليات الوافدة"، أضْحَى شبيها بمضمون تلك الحكمة العربية. فعندما كتبتُ عن "القيادات العمانية والمناصب الوظيفية العُليا" في هذه الجريدة الغراء، تلقيتُ دعوة من بعض قدامى موظفي مصرف عُماني رائد لكي أتجول معهم داخل أروقته وأتعرف على العدد الكبير من Senior officers من العمانيين الذين تتجاوز سنوات خبراتهم العشرين عاما، وبالمقابل التعرف على Managerial Levels من "الوافدين" ممن تقل خبراتهم عن أولئك العمانيين أو تعادلها، وإلى يومنا هذا لم يستطع أحدا تفسير هذه الظاهرة وهي: جلوس الوافد على كرسي المدير، بينما يجلس من يفوقه خبرة أو يعادله من أبناء الوطن على الكرسي الذي يليه درجة؟!

بعض أولئك المديرين الكبار من "الوافدين" بالطبع، يحصدون من بعض المصارف العمانية رواتبَ تزيد على 14 ألفا من الريالات العُمانية، وإلى يومنا هذا لا توجد إجابة واضحة ومقنعة تفسر سبب وجود الوافد الغالي الثمن كل تلك السنوات الطوال من الخدمة! والعجب أن بعض أولئك "الوافدين" عند بلوغهم الستين عاما، ينالون لقب "مستشار" ليبقوا على صلة بوظائفهم، في حين تُوجه إلى ُالعماني رسالة بأنه قد أكمل التسع والخمسين، والعام المقبل هو عام تقاعده!

ألم يكن توظيف الأجنبي ضروريا حتى تتأسَّس الكوادر الوطنية بالمؤهل الأكاديمي والخبرة المطلوبة، ثم تنتقل تفاصيل المهنة إليها ويتم بعد ذلك توديع الوافد وشكره بأجزل عبارات الشكر لقيامه بنقل الخبرة والمعرفة إلى الكادر الوطني المؤهل؟!

فلو فرضنا أن مدة انتظار رفد المؤسسات التعليمية العليا السوق العمانية بالكوادر المؤهلة تحتاج إلى 10 أعوام مثلا، وعشرة أخرى لتكوين الخبرة في الكادر الوطني، ولنضف عليها عشرة أخرى من السنوات، ولنسميها "فترة الرومانسية" للوافد، أليست هذه كلها تكفي لأن تكون الخبرة والمعرفة قد انتقلت إلى الكادر العُماني؟

فما بال كل تلك الكراسي وقد شغلها "الوافد" ومن دولة محددة إلى يومنا هذا في ظل بحث العماني عن الوظيفة رغم وجود المؤهل الأكاديمي المطلوب لديه؟

إنَّنا إنْ أردنا أن نضع الأصبع على الجرح، فيجب القول صراحة: لسنا نملك خطة وطنية طموحة تستطيع إحلال العماني في الوظيفة المناسبة وفي الوقت المناسب، دون أن تقف في مواجهتها وتعطيلها أية جدران كانت لأية مصارف ومؤسسات.

وأعُوْد بالقارئ إلى تجوالي في أروقة ذاك المصرف الكبير، فعندما بلغت موقع قسم تقنية المعلومات IT هالني الأمر، فلقد ظننت بأني في إحدى مصارف "الجارة ذات المليار إنسان"، لكثرة عدد أولئك الوافدين من أبنائها الذين وجدتهم فيه! أليس من الحري بخريجي جامعة السلطان قابوس أن يكونوا في تلك المواقع؟

يُقال، إن بعضا من "الوافدين" قد تحققت في ظل وجودهم إنجازات من قبيل ازدياد عدد فروع بعض المصارف الكُبرى وازدياد أصولها كذلك لتبلغ المليارات. إن هذا أمر رائع حقا، ويستحق أولئك كل التكريم والثناء، وهل غير هذا كُنا نرجوه من العمالة الوافدة؟

ليس هذا المقال بالذي يُقلل من شأن ذوي الإنجازات من الوافدين والتي تصب في مصلحة البلد، بل يدعو لتكريمهم وشكرهم، ولكنه يدعو كذلك إلى إيجاد أمد لا ينبغي تجاوزه في وجودهم على كراسيهم، في ظل وجود الكادر الوطني المؤهل وبالكفاءة المطلوبة. وإلا، فمتى تحديدا ينبغي للعماني أن يحظى بفرصة بناء اقتصاد بلده من موقع رفيع في الهرم الوظيفي، وقد امتلك من الخبرة والمؤهل ما يعينه عُلى ذلك؟

لقد التحق بعض صُنَّاع هذه الإنجازات بوظيفتهم في مصارفنا المحلية الكبرى أول الأمر بعدد ضئيل من سنوات الخبرة، لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وحققوا ما حققوا، فما بال العماني بعشرين سنة من الخبرة ألن يتمكَّن من تقديم هذا الأداء، وهو في أرضه وبين أبناء بلده، حتى نسعى إلى "تحنيط" الوظيفة باسم ذلك الوافد إلى أن يعمل "القدر" فيه برأيه؟!

اللهم إلا إذا كان شرط الانتماء إلى بلد "المليار" إنسان هو سر النجاح، لدرجة أنه وبعد مرور ثلاثة عقود متتالية من العمل والترقي من منصب إلى أعلى منه، ما زلنا لا نستطيع الاستغناء عنه، بل إن تصور عدم وجوده غير ممكن بالمرة، فبعد التقاعد نوليه منصب المستشار ليظل لصيقا بوظيفته مهما بلغ من العمر عتيا! هل ينبغي أن تُغير مؤسسات التعليم العالي لدينا بوصلتها فتجعل ابتعاث أبنائها إلى بلد "المليار نفس" أمرا لا محيص عنه؛ فلعلهم عندها يكتسبون الشرط و"الخلطة السرية" معاً؛ لضمان كسب ثقة بعض مجالس الإدارات في القطاع الخاص العُماني؟

يعترف خبراء بأنَّ نقل المعرفة والخبرة لم يحدث كما ينبغي، ولا توجد خُطة كهذه في دوائر الموارد البشرية في أغلب مؤسسات القطاع الخاص الكبرى، ولم يحظَ هذا الموضوع باهتمام مجالس الإدراة بالدرجة الكافية، وإن استمرت الحال على ما هي عليه، فقد نجد أنَّ البيئة في القطاع الخاص تؤسس لأن "يستنسر" مزيد من "الوافدين" على أصحاب الأرض الذين هم أحق بخيراتها.

mohammed@alroya.net