القراءة.. فَلَج المعرفة

 

 

عمَّار الغزالي

ودَّعت مسقط عُرسَها الثقافي السنوي، بعد أحد عشر يومًا كانت حافلة بالثراء المعرفي، ليس فقط لكون المعرض ثالث أكبر تظاهرة ثقافية في الشرق الأوسط، وإنِّما لرمزيته التي بدأتْ تخرج عن النطاق الضيِّق لفكرة تجمُّع لدور النشر تُباع فيه الكتب، إلى بوابة نلج من خلالها بلدانًا وأماكن وأزمانا وعصورا؛ فنطَّلع على الحضارات والثقافات، وتشتعل بداخلنا جذوة القراءة والبحث عن الكلمة والعنوان والمعلومة، في فرصة حقيقية لتحريك الفكر وتحفيز الإبداع.

وقبل استقراء ما بَيْن السُطور، فإنَّ شكرًا لابد أن يُسدى لجهود قامت على التنظيم، وأرادت للنسخة الثانية والعشرين أن تخلع عن نفسها عباءة التقليد، لترتدي أبهى حُلل التطوُّر؛ بتقنيات أعلى، وقاعات مُجهَّزة، وأجنحة مُتكاملة، رُوْعِي فيها أن ينضم المعرض إلى قائمة "السفراء غير المُكلَّفين" لعُمان الحضارة والعلم والتاريخ.

والحُلة القشيبة التي بدا عليها معرض هذا العام، والعدد المُتنامي لزائريه، والأرقام التي رُصدت لدور النشر المُشارِكَة، وعناوين الكتب، ورائحة الحبر التي عبَّقت أروقة مركز عُمان الدولي للمعارض والمؤتمرات، وزخم الأمسيات والنقاشات واللقاءات التليفزيونية والتَّغطية الإعلامية المُميزة، على قدر ما ألهبتْ في النفوس مشاعر الانبهار، داعبت في الوقت نفسه أوتار الشجون؛ حيث جدَّدت الحديث مرة أخرى عن الفجوة الأزليَّة بين القارئ العربي عموماً والكتاب، والتي لا تزال تبحث عمَّن يُجسِّرها، ويُعالج الرَّتق الذي يتَّسع بفعل الانتشار العَوْلَمي المُتنامي.. فتقرير التنمية البشرية الأخير -الذي تُصدره "اليونسكو"- لم يرصُد سوى القليل جداً كمعدَّل قرائي للمواطن العربي.

فَجْوَة حقيقيَّة بين الإنسان والكتاب والقراءة، في بيئة لا تُشجِّع على القراءة.. فهل السبب المادة التي تحويها الكُتب؟ أم التَّرويج غير الاحترافي لتلك الثقافة الغائبة؟ أم في قلة النسخ الرقمية والنسخ المسموعة لذات الكتب؟ أم في المؤلف الذي لم يُدرك بَعْد اهتمامات الأجيال الصاعدة؟ وهل التربية الأوْلى هي المُتهم؟ أم أنَّ الجَهد المبذول من الجهات المعنية لا يكفي لتخريج جيلٍ واعٍ، يؤمن بمقولة عباس العقاد: "أهوى القراءة لأنَّ عندي حياة واحدة، وحياة واحدة لا تكفيني، والقراءة هي التي تُعطيني أكثر من حياة"؟ أم أنَّ أسبابًا أُخر لم تفصِح عنها الأيام بَعْد؟.

تتشابك التساؤلات والاستفهامات.. ففي وقتٍ أصبحتْ فيه شرائح واسعة من المُجتمع تتعامل مع "الإنترنت" على أنَّه الوسيلة المعرفية الأولى، فإنَّ الكثير من مواقعها والصفحات المُنتشرة عليها لا تعدُّ مرجعًا في حد ذاتها أو دليلاً على صِدْقِية معلومتها. فموسوعة كبيرة لها اسمها كـ"ويكيبيديا" مثلاً، ويتهافت عليها الجميع؛ يُمكن لأيّ شخص أن يتدخَّل في المادة المنشورة عليها -سواء بالإضافة أو الحذف- عبر حسابات مُتاحة وسهل استخدامها، مما ينال من مصداقية منشوراتها. عدا عمَّا للكتاب الورقي من مُتعة حقيقية، تجعلك تُبحر بين السطور وتغوص بين العناوين، وكأنك تلتقي المؤلف وجهاً لوجه عبر صفحاته؛ فكما قال ميخائيل نعيمة: "عندما تصبح المكتبة ضرورة، يُمكن القول بأننا أصبحنا متحضرين".

إلا إنَّ مُبرِّرات كهذه بالتأكيد لن تُؤثِّر على مكانة الإنترنت كمصدر أول للمعرفة بلا منازع في عصر العولمة وسرعة التَّعامل مع المعلومة؛ لذا وجب التعامل مع هذا الواقع بذكاء بل والاستفادة منه في سرعة الحصول على المعلومة وتحفيز أهمية القراءة والمعرفة عموماً.

إنَّ سيطرة الماديات والكماليات على حياة النَّاس قد تكون من أسباب الكسل الفكري، وضعف الجذور البنيوية للقارئ، وتشوُّش ارتباطاته القيمية بالقراءة الحرَّة والبحث، أو غياب التشجيع على التفكير الحر المنهجي؛ وهو ما يفتح الباب أمام قضية مفصلية لا يُمكن سبر أغوارها في سطور، ألا وهي خارطة الطريق لإصلاح التعليم، كموضوع مُلح وآني، يتطلب خطوات عملية وتخطيطاً قصير المدى، يرتبط به تخطيط آخر طويل المدى، يُوجِد مُنطلقات أساسية تستهدف تطوير المنظومة ككل، وتضمن تحقيق مُخرجات على رأس اهتماماتها وأولوياتها "القراءة".

وفي حين نودِّع معرض مسقط للكتاب، ونستقبل مارس "شهر القراءة"، فإنَّ العين لا تُخطئ ذاك الضعف المُصاحب للمبادرات المجتمعية "القرائية" رغم تواجدها -وكل الشكر والتقدير للقائمين عليها- وقلَّة الفرقِ التطوُّعية المُهتمَّة بالتوعية بهذا الجانب، خصوصاً في الولايات البعيدة عن العاصمة، مع انحسار المُحاولات الباحثة عن ابتكار وسائل جديدة؛ والاستفادة من التجارب الدولية التي أثبتت نجاحات واسعة في هذا الجانب؛ كـ"أسبوع أوز للكتاب" في أستراليا، و"منظمة مُحبِّي الكتاب" في روسيا، وفعالية "التجوُّل بالقراءة" بكوبا، ومُبادرة "القراءة العائلية" في بريطانيا.

وإيجاد حلول لـ"أزمة النشر" المحلي ذات التكلفة العالية، بما يُسهم في تقليل التكلفة وبالتالي خفض أسعار الكتب، وأن تضطلع قناة عُمان الثقافية بدور توعوي أكبر خلال الفترة المُقبلة باعتبارها منصَّة إعلامية لها ثقلها، وكذلك تنويع خارطتها البرامجية، وتبنِّي فكرة "أسبوع الكتاب" تُقام كل شهر وتطوف ولايات السلطنة؛ على أن تشمل أيامها فعاليات وندوات ومُحاضرات مُتخصِّصة ودورات تدريبية تنمِّي الوازع المعرفي والنهم القرائي لدى المستهدفين.

إنَّ واقعًا متأزمًا كهذا يضعنا في زاوية الحاجة الماسة لدراسات علمية دقيقة، ومعلومات مسحية تقوم على أسس واقعية وإحصاءات مُحدَّدة تجاه جمهور الكِتَاب والقراءة، يتم نشر نتائجها بشكل دوري؛ للمساهمة في التشخيص السليم، ومعرفة نقطة البداية لبرنامج العلاج؛ فقضية كهذه تعتبر من الظواهر المجتمعية السلبية التي تحتاج "مكافحة فورية".. ومثل هذه الأفكار والجهود على ما ستُحققه من إنماء معرفي، وما ستُحدثه من زخم ثقافي، لابد لها أن تستمد زاد رحلتها من تعاليم ديننا الحنيف التي انبنى أصلُها على الأمر الإلهي الأول: "اقرأ"؛ كمنهاج رباني ابتداءً. وكامتداد لتاريخ عُماني عريق من الثقافة والعلم والحضارة، واستكمالاً لجهود علماء أجلاء أنجبتهم هذه البلدة الطيبة، فشاع نور علمهم وعمَّ أرجاء واسعة، فكانت عُمان بهم قِبلة الباحثين عن المعرفة؛ ينهلون من معينها الذي لا ينضب؛ كفلج انفجرت ينابيعه قبل آلاف السنين، ولا تزال مياهه جارية تروي نفوسًا متعطشة دائمًا للعلم المُثمر والبنَّاء؛ ويبقى قول المتنبي صادحًا:

"أعزُّ مكان في الدنى سرج سابح...

وخير جليس في الأنام كتاب".

ammaralghazali@hotmail.com