شهادة الزور وآثارها على الفرد والمجتمع

 

عيسى الرواحي

 

قبل الخوض في أمر هذه الكبيرة العظيمة وهي شهادة الزور فإنِّه ينبغي توضيح معناها، فالشهادة تعني الإقرار بالشيء، والزور يعني الكذب أو تحسين الشيء ووصفه بخلاف ما فيه، وعليه فشهادة الزور تعني الإقرار بالشيء على خلاف واقعه وأصله، وأما قول الزور فهو أعم وأشمل إذ يعني كل باطل من القول كالكذب والنميمة والاستهزاء والسُّخرية وغير ذلك.

 

 وتُعد شهادة الزور من أكبر الكبائر التي حذَّر منها الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحذيراً شديداً، فقد روي عن  عبد الرحمن بن أبي بَكرة عن أبيه، قال: "كنَّا عند رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: (ألا أُنَبِّئُكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور - أو وقول الزور)، وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مُتَّكِئًا، فجلَس، فما زال يُكرِّرها؛ حتى قلنا: ليتَه سَكَتَ".

وقد استدل العلماءُ على عظم شهادة الزور في الحديث النبوي من عدة أوجه من بينها قوله (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر) حيث يلفت انتباه السامع، واعتبار هذه الكبيرة من أكبر الكبائر، وإقرانه هذه الكبيرة بكبيرة الشرك بالله وعقوق الوالدين، وتغيير جلسته عند ذكر شهادة الزور أو قول الزور، وتكرار ذكرها ثلاثاً، ووجود المشقة عليه وهو يُردد هذا القول حتى تمنى الصحابة الكرام _ رضي الله عنهم_ لو أنَّه سكت.

 

وقد قرن القرآن الكريم النَّهي عن قول الزور بالنَّهي عن الرجس من الأوثان لما في ذلك من تقبيح وشناعة الزور قولاً وشهادة يقول الله تعالى:  (... فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) [ 30_ الحج] وبيَّن القرآن الكريم أن من صفات عباد الرحمن أنَّهم لا يشهدون الزور حيث يقول الله تعالى : ( (وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان : 72].

 

لقد عدلت شهادة الزور الشرك بالله حيث روي عن النَّبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قوله : (عدلت شهادة الزور الشرك بالله) كما أنَّها أوجبت لصاحبها دخول النار فعن ابن عمر _ رضي الله عنهما _  قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: (لن تزول قدم شاهد الزور حتى يوجب الله له النَّار).

 

ورغم عظم هذه الكبيرة وما ورد فيها من وعيد شديد، فما أكثر ما تغُص المحاكم بشهادات الزور! وما أكثر ما تشهد جلسات المحاكم من طمس للحقائق وتدليس للوقائع! وكل هذا ناتج من عدم استشعار عظم الخطيئة، والركون إلى الدنيا بسبب متاع بخس يأخذه شاهد الزور رشوة فيشهد به زورًا، وانتشار الحقد والكراهية والعداوات، أو الذل والهوان الذي سيطر على قلوب بعض النَّاس، وقد نسي صاحب شهادة الزور أو تناسى أنَّه يرتكب أكبر الكبائر!.

 

وكيف لا تكون شهادة الزور أكبر الكبائر وفيها تحديث لكذب، وتضييع لحقوق، وطمس لحقائق، وضياع لواجبات، واتهام لأبرياء، وهدر لدماء، وإباحة لما حرم الله، وإشاعة للفوضى، ونشر للأحقاد والكراهية والبغضاء، وعون للظلمة والمجرمين، وتعاون على الإثم والعدوان، وغيرها من الويلات التي تجرها هذه الكبيرة؟!

 

وفي زمننا هذا تعدَّدت أشكال وصور شهادات الزور، وليس بالضرورة أن تكون شهادة الزور داخل المحاكم أو ما يتعلَّق بالمعاملات المالية فحسب، فإعطاء إجازة مرضية لمن ليس مريضًا شهادة زور، ومنح مُتعلم درجة علمية لا يستحقها ونالها بغش وتدليس شهادة زور، ورفع تقرير كفاءة عالٍ عن مُوظف مُهمل مُقصر كسول شهادة زور، وربما يتبادر للذهن أن مثل هذه الصور لا تشكل ضررًا لأحد حتى مع كونها تحديثاً للكذب، ولكن بنظرة فاحصة يتبين أنَّ فيها غشاً للأمة، وتضييعاً للأمانة، وتقصيرًا في واجبات العمل، وظلماً للموظفين المخلصين، وإجحافاً في حقوقهم وغير ذلك من الآثار الوخيمة.

 

ومن صور شهادات الزور التي انتشرت في أوساط المُجتمع عند وقوع بعض حوادث السير ويكون المُتسبب فيها لا يملك رخصة قيادة، فيقوم شخص آخر يملك رخصة قيادة فيجعل نفسه المتسبب في الحادث، وقد سُئل سماحة الشيخ الخليلي المُفتي العام للسلطنة حول هذا الشأن بسؤال نصه:  ما الحكم في من قاد سيارته وهو لا يحمل رخصة قيادة ووقع في حادث، ومن أجل تلافي موضوع الغرامات والمُخالفات أوكل المهمة إلى شخص يدّعي أنه هو القائد؟

فكان الجواب من سماحته شافياً وافياً موضحاً ما لآثار ذلك من ضرر على الفرد والمُجتمع؛ حيث أجاب بقوله:"هذا من التزوير، والزور نفسه حرام، وشهادة الزور محرمة، وقول الزور مُحرم، فعندما عدّد النبي  ـ صلى الله عليه وسلّم ـ الكبائر قال في تعدادها: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور . فما زال يرددها حتى قال الراوي وددنا لو سكت . فالزور نفسه مُحرم، ثم مع هذا أيضًا بجانب كونه محرماً هناك تحايل، والتحايل على النظام غير جائز، ولو سُمِح للنَّاس أن يفعلوا ذلك لضاعت الحقوق وأهدرت وذهب القانون وذهب النظام وعاد الناس كل يحتال بما يستطيع أن يحتال به، لا يبقى حق، ولا يبقى أمان، ولا يبقى استقرار مع الناس، فعلى الناس أن يتقوا الله وأن يحرصوا على كلمة الصدق وأن لا يحتالوا . ففي هذا تشجيع للآخرين بأن يرتكبوا المخالفات وأن يقعوا في المحظورات، وبما أنَّ هذا الإنسان لا يحمل رخصة قيادة لماذا يقود السيارة؟ لا يجوز له أن يقود السيارة، وعليه أن يلتزم النظام، وعليه أن يحرص بأن يكون القائد للسيارة غيره، والآخر الذي يتحمل هذه المسؤولية لأجل التخفيف عن هذا وتخفيف الغرامة ودرء المسؤولية عنه أيضاً هو قائل زور فعليه أن يتقي الله تعالى في ما يقول."

 

وهناك من يجمع مع شهادة الزور معصية أخرى، وهي اليمين الكاذبة بحيث يؤكد شهادة زوره بالحلف الكاذب، فإنِّا لله وإنِّا إليه راجعون.

 

إنَّ على من شهد زورًا، وأراد العودة إلى الله تعالى وتصحيح ما وقع فيه من خطأ، فرحمة الله واسعة وباب التوبة مفتوح، فمن أراد ذلك فعليه التوبة النصوح محققاً جميع شروطها من الندم والاستغفار والعزم  على عدم العودة إلى المعصية، وإن كان يتعلق بشهادة الزور ضرر على أحد فعليه أن يرد المظالم ويرجع الحقوق إلى أهلها... والله المستعان.

 

issa808@moe.om