مدلولات صعود الشعبوية في المجتمعات الغربية (1-2)

 

 

عبيدلي العبيدلي

عجَّت الدوريات الغربية في الآونة الأخيرة -ومن بينها فصليات رزينة؛ مثل: مجلة "الشؤون الخارجية" (Foreign Affairs)، التي حمل غلاف عددها الأخير (نوفمبر 2016) عنوانا يحذر من "قوة الشعبوية"- بمقالات تعالج موضوع ما أصبح يطلق عليه اسم "الشعبوية" (Populism)، وهو تعبير مغاير تماما لما يعرف باسم "الشعبية" (Popularity). وقد دخلت ميدان مناقشة موضوع "الشعبوية" أقلام كثيرة من كتاب وصحفيين وباحثين، من أمثال الباحث الأمريكي مارك فلورباي من جامعة برينستون، الذي يعتبر "الشعبوية" البحث من قبل سياسيين يحظون بكاريزما عن دعم شعبي مباشر في خطاب عام يتحدى المؤسسات التقليدية الديمقراطية. وبينما تصف "الشعبية"، كما يقول الكاتب زكريا الفاضل، "اعتناق الشعب لمذهب معين وتأييده له لما فيه من تجاوب مع عقلية الجماهير وتناسب ومطامحها الاقتصادية والسياسية وتطلعاتها المستقبلية"،  نجد الشعبوية كما يضيف الفاضل "لا تملك أرضية فكرية ترسو عليها مبادئها لانعدام هذه الأخيرة. فالشعبوي لا يؤمن إلا بمصالحه الشخصية، فردا كان أو تنظيما، ولا تعرف نفسه سبيلا إلى الإيثار والتضحية إذ انبنى تكوينه السيكولوجي على النرجسية والأنانية، لذلك تراه لا يؤمن بالوطن والوطنية في حين تجد إيمانه عميق بالوصولية والانتهازية وشعاره الأبدي: الغاية تبرر الوسيلة، (ويضيف، ولذلك) ليس سهلا أن تميز الشعبوي من الوطني أحيانا كثيرة، ذلك أنّ خطابهما غالبا يكون متقاربا شكلا وأحيانا مضمونا".

لكن ومقابل ذلك نجد الشعبوي كما يصفه بلال بوسنة هو ذلك الشخص الذي "يتبنى مخاوف المواطن البسيط ويسطِّر على ضوئها البرامج والوعود الانتخابية فلا يكلف نفسه عناء البحث والتخطيط، إنه نوع من خطابات الطمأنة والانخراط في الفكر الجماهيري السطحي، لذلك يراه الكثيرون أقرب إلى همومهم من خطاب النخبة المؤسس بصورة أكبر على المعطى العلمي والواقعي. وفي المقابل، أفصح وعي المواطن الغربي أخيرا عن فقر في الرؤى والأفكار وعن عجز في الاستدلال والتحليل، وأصبح فريسة سهلة لكل خطاب شعبوي يدغدغ عواطف الانغلاق والانفصال والتقوقع، ويبعث على الإحساس بالأمان إزاء عولمة الفوضى والإرهاب. إن الشعبويين ينتقون جيدا فئة الناخبين التي تذعن لدعايتهم الدغمائية وتسلم بها وهي الفئة الهشة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا، والتي يتملكها دائما الإحساس بالاستضعاف فتجنح للبحث عن أمنها المالي والجسدي".

من جانبه، يُؤصِّل الكاتب الكويتي خليل علي حيدر هذا الظاهرة مستعيرا ما جاء على لسان أستاذ النظرية السياسية وتاريخ الأفكار في جامعة "برينستون" الأمريكية "يانفيرنر موللر" في كتابه (What Is Populism) حيث يعتبر الشعبوية "مذهبا في السياسة يعتقد أصحابه أن نخباً منحرفة فاسدة وطفيلية، تتصدى على الدوام لشعب متجانس وواحد وطاهر أخلاقيا. وأن هناك أمريكياً حقيقياً، وفرنسياً أصيلاً، ومجرياً نقياً.. وهكذا، (مضيفا) ويرى الشعبويون أنهم وحدهم يمثلون الشعب الحق، وإرادة الجماهير وكل من عداهم فاقد لمشروعية التمثيل، وهكذا فهم رواد المدرسة الحَصْرية في التمثيل السياسي".

وبخلاف ما يعتقد البعض منا، فالشعبوية ليست ظاهرة جديدة أو طارئة؛ إذ يرجع البعض أصولها إلى أواخر القرن التاسع عشر عندما ظهرت بوادر هذه الحركة في روسيا والولايات المتحدة. وكانت تعبر في أصولها "عن حركة زراعية، بإيحاءات اشتراكية، لتحرير الفلاحين الروس في حوالي العام 1870". على نحو مواز ودون أدنى تنسيق انطلقت "في الفترة ذاتها، حركة احتجاجات في الريف الأمريكي موجهة ضد البنوك وشركات السكك الحديد". لكن المصطلح في أطاره المعاصرة مرتبط مع الحركة التي أطلقها الزعيم الأرجنتيني خوان بيرون، والبرازيلي غيتوليو فارغاس في أمريكا اللاتينية التي جسدت "حركات شعبية بإيحاءات وطنية واجتماعية في بعض الأحيان من دون أي إشارة إلى الماركسية ونضال الطبقات أو الأيديولوجية الفاشية".

بدوره، يجتهدُ الكاتبُ المغربيُّ عبداللطيف العبوبي بلفقيه، في تشخيصه لبروز ظاهرة "الشعبوية"؛ إذ يجد فيها انعكاسا مباشرا لـ"هشاشة الديمقراطية". ويستعين في ذلك بما جاء على لسان المؤرخ الفرنسي "ميشيل وينوك"، الذي يعتبرها "مثل الحمى، علامة مرضية. فلا جدوى من احتقارها إذا لم يُعمل على علاج ما تكشفه من ضروب الحرمان. نجاحها يشكل عموما أمارة على الشرخ والفجوة الواسعة بين الحكام والمواطنين، بين الفقراء والأغنياء، والديماجوجية (وسيلتها) التي تلجأ اليها تمنعها (لا محالة) من الوصول الى مسؤولية الحكم وتدبير الشأن العام، لكن الاحتجاج الصاخب الذي تُسْمعه لا يجب رغم غلوه وافراطه وحماقاته أن يصل إلى آذان صماء".

الباحث عبد الإله بلقزيز، يحاول أن يلج حوار الشعبوية من منظار تنظيمي، لذلك نراه يرادف بين الشعبوية "والفوضوية والعفوية التنظيمية والتجريبية القاتلة في التفكير، (ويعتبرها جميعا) أمراضا لازمت العمل السياسي منذ القرن التاسع عشر في الغرب فأنتجت حالات سياسية باثولوجية من طراز الفوضوية النقابية، والعدمية، والبلانكية، والنازية، وسواها مما انتقده مفكرو السياسة الكبار في القرن العشرين. بَيْد أنَّ أسوأ ما في هذه الشعبوية أنها تؤسس لميتافيزيقا سياسية جديدة، بل قُل للاهوت سياسي جديد، هو لاهوت الشعب!".

وفي خضم كل هذه النقاشات، نجد أنَّ ما يلفت النظر في مسألة الشعبوية، هو أنه على الرغم من ظهورها المبكر في أواخر القرن التاسع عشر، لكنها ما تزال محط خلاف عندما يتعلق الأمر بتعريفها، وهو ما يشير له مدير مجلة "كريتيك" فيليب روجيه في العام 2012، (نقلا عن موقع فرانس 24) حين ينوه قائلا "هذه الكلمة في كل مكان، لكن من دون تعريف لها". يشاركه هذا الرأي ، خبير الأفكار السياسية في معهد العلوم السياسية في غرونوبل أوليفييه ايهل حين يقول (كما ينقل موقع فرانس 24)  "اليوم أيضا، لا يزال من الصعب تحديد هذا المصطلح، لأنه يثير جدلا، و يعني ظواهر في غاية الاختلاف أنها لا تستخدم للتوضيح بقدر ما تستخدم للتنديد".