الرحمة المُهداة

 

 

عبد الله العجمي

 

لا يسعنا ونحن نرى أذرع أخطبوط الفتنة تلتفّ حول أعناق المُسلمين بطريقةٍ يصعب معها ترويضه وفكّ عُقدِه؛ إلا أن نقتبس شعلة من نور سراج المُناسبة الجليلة التي ستمر علينا بعد بضعة أيام.. ذكرى مولد سيد الكائنات مُحمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأنَّ من أطعمنا علقماً لنشفى أَبَرّ بنا ممن يُعطينا الحلو لنمرض ونشقى.. فلتعذروني إذاً جميعًا لتكدير صفو فرحتكم بهذه المُناسبة الجميلة.. فبرغم كونها مُناسبة سعيدة ومفرحة إلا أنَّ دروبنا أضْحَت وعِرة المسَالك.. وطرقنا أمست مُظلِمة اللُّجَج.. لدرجة أننا صرنا لا نعي على أيّ طريق سنحُط أقدامنا وخطانا.. أإلى طريق الإقدام نعدو أم على طريق الإدبار نتراجع.. فالتحديات الكبيرة التي تمرّ بنا تستلزم منِّا وقفة مراجعةٍ وتقييم لجميع مواقفنا السابقة.. مستحضرين الكم الهائل من السلبيات التي أدت إلى ما وصلت إليه حال الأمة الإسلامية.. إذ إنَّ مواجهة مثل هذه التَّحديات هو ما يُعطينا الفرصة لتصحيح مساراتنا.. ولنعلم أنَّ كل هذه التحديات الكبيرة ما هي إلا مُجرد تراكمات لتحدِّيات بسيطة وصغيرة أهملناها وتجاهلناها.. ونستطيع أن نراها جليّة على نطاق المُجتمع أو نلمسها على نطاق الأسرة أو ربما نشعر بها على نطاق الفرد المسلم.

هذا الفرد الذي سيُمسي أخْيَر الناسِ لو أضحى نافعاً لمن حوله.. وسيغدو المسلم الحقّ طالما سَلِم المسلمون من لسانهِ ويده.. وقد شرّقت بذلك الكثير من البحوث الحديثة وغرّبت به المئات من التجارب الحيّة.. كلها عادت لتؤكد على هذه القواعد البسيطة التي رسمها الإسلام لهذا الفرد .. الإسلام الذي اعتمد في منهاجه العام على محاولة تهذيب النفس البشرية قبل كل شيء.. بحيث لم تترك تعاليمُه فضيلةً من الفضائل إلا ودعَت لها.. محاولاً بذلك أن يعصِم الفرد أولاً من الانحراف والانحلال.. لتتوالى بعدها انعكاسات هذا الالتزام لتتسع دوائره إيجاباً على نطاق الأسرة فالمُجتمع بأكمله.

 

ومن الصفات الجميلة والرائعة التي تحتاج منِّا إلى ألف وقفة ووقفة في عصرنا هذا هي صفة الرحمة.. والتي وصف بها الحق تبارك وتعالى نفسه في أكثر من آية شريفة لعِظَم قدرها وجلالة شأنها.. فمِن الآيات البليغة – وكلها بليغة- في توضيح هذا المعنى هو قوله تعالى في الآية 156 من سورة الأعراف: "ورحمتي وسعت كل شيء".. لكن حينما نراه جلّ وعلا قد وصف نبيه الكريم بهذه الصفة الجميلة في سورة الأنبياء الآية 107 حين قال: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين".. فإنّنا لن نجد توصيفاً أدقّ من وصف المولى سبحانه وتعالى له حين يُكرّر وصفه بهذه الصفة في قوله عزّ وجلّ: "بالمؤمنين رؤوف رحيم" سورة التوبة – الآية 128.. وقد أثبتها نبي الرحمة عليه وآله أفضل الصلاة وأتمّ السلام حين قال: "يا أيها النَّاس، إنما أنا رحمة مُهداة". فمتى يُدرك من يدّعي الإسلام وهو يهمّ بقطع رؤوس مخالفيه هذا المعنى الجليّ والواضح؟.. ألم يسمع بحديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي"؟؟!

الأحداث الأخيرة قد أبرزت لنا بشراً ليسوا ككل البشر.. بشراً خلِيَت قلوبهم من الرحمة.. وكأنها انتُزِعت منهم انتزاعاً..

نفوس تُقتل وتُذبح ودِماء زاكية تُسفك ببرودة أعصاب، ويتامى ثُكِلت بلا رحمة ولا رأفة، حتى ظننا أنّ الرحمة عملة نادرة في قلوبهم، نراهم وقد انسلخوا من كل القيم الإنسانية وأطلقوا لأنفسهم الضالة أعِنّة الصراع فخسروا دينهم ودنياهم.. فكما أنَّ فقدان الثقة يُعدّ أكبر هزيمة على مستوى الفرد؛ فإن فقدان الرحمة من القلوب لهو أعظم وأجلّ على مستوى المجتمع.

إننا بِصاحب هذه المُناسبة العطرة ندعو جميع مكوّنات مجتمعاتنا من عُلماء ووجهاء ومُفكرين ومُثقفين وأفراد إلى الالتقاء على المشتركات التي تخدم بلدنا وأمتنا.. وما أحوجنا اليوم إلى توجيه البوصلة للتركيز على إعادة نشر القيم والمبادئ التي جاء بها الرحمة المُهداة لنا جميعا.. لتمر علينا مثيلات هذه المناسبات في الأعوام القادمة ونصاعة ذكراها يحتفظ بها أبناؤنا جيلاً بعد جيل.. فدولاب الزمن يدور دون توقف شئنا ذلك أم أبينا، ويطوي معه الأجيال النائمة إذ لا احترام إلا للمتيقّظين..

 

abdullah-alajmi@hotmail.com