الهند (الدرس الثالث): الإلحاح

 

عائشة البلوشية

 

طالعتنا وسائل الإعلام بعدد الطلبة المُتسربين من مقاعد التعليم العالي في عام 2016م، وهو رقم ضخم جدًا إذا ما تمَّت مقارنته بعدد مدخلات نفس الدفعة، وهو أمر يبعث على التفكر في الدوافع المختلفة التي تدعو طالب علم لأن يتخلى عن فرصة جاءت إلى دربه وأصبحت مسير حياته، فتخلى عن ذلك الأمل الأكاديمي الجميل الذي كان غيره يحلم به، فكانت نسبة دبلوم التعليم العام حائطاً من الخرسانة المنيعة أمامه، وأياً كانت الأسباب والدوافع فإنّ الخاسر الوحيد هنا هو الوطن، ﻷنه خسر ما يربو على عشرة آلاف طالب كانوا سينضمون إلى ركب حاملي المؤهلات الجامعية بدرجتيها الأولى والثانية...

ومنذ أن استمعت إلى الخبر عبر شاشة التلفزيون، وشاهدت اللقاءات والتقارير، وقرأت تفاصيله في مواقع التواصل الاجتماعي المهتمة بهذا الموضوع، وهو لا ينفك يعِنُ على فكري بين الفينة والأخرى، أخذت أتأمل شوارع مومباي في فترة ما بعد الظهر، وآلاف مؤلفة من الطلاب يحثون الخطى نحو منازلهم أو الدروس الخصوصية، نعم الدروس الخصوصية التي يحرص ولي الأمر على توفيرها لابنه/ابنته حتى وإن حرمت الأسرة نفسها من الطعام الحقيقي في سبيل ذلك، وربما اطلع البعض منكم على الكوميديا الإنجليزية الساخرة، والتي تتخذ من موضوع حرص الهنود على حصول أبنائهم على المراكز الأولى في الدراسة مصدرًا للتفكه والضحك، وأذكر في إحدى المحاضرات التي كنت أحضرها في التسعينيات من القرن الماضي، أنّ البروفيسور كان يتحدث عن اختبار قدرات اللغة الإنجليزية "الآيلتس"، فذكر لنا معلومة أذهلتنا، عندما أخبرنا بأنَّ الشخص الوحيد الذي حصل على معدل 9 في هذا الاختبار وهو أعلى مُعدل في مستويات الاختبار الأكاديمي كان هندياً، ﻷننا كنّا دائمًا موزودين بمعلومة خاطئة وهي أنّ أعلى معدل يمكن أن يحاول الشخص الوصول إليه هو 8.5 ﻷنّ النصف علامة المتبقية لا يمكن أن تعطى ﻷحد، فلا يُمكن لشخص أن يُحقق العلامة الكاملة في كل مهارة من مهارات اللغة، فكان سؤالنا كيف ذلك وأين المتحدثون الأصليون لهذه اللغة؟ فضحك وقال عندما يتعلق الأمر بالعلم لدى الهنود فإنّهم يتحدون أنفسهم حتى يحققوا العلامة كاملة!...

الهند هذا البلد الملياري الزاخر بالثقافات المعتقة، يفوق عدد سكانه المليار وثلاثمائة مليون نسمة، متعدد الطوائف الدينية والعرقية، ولكن الديانة الهندوسية هي الشريحة الأعرض بين طبقات المجتمع، وأياً كانت الديانات أو الأعراق لديهم لكنهم أدركوا مؤخرا بأن نجاتهم من الفقر والجوع، وتطورهم ليكونوا منافسين شرسين لاقتصادات العالم تكمن في العلم، فأصبحت الأسر تتنافس في تعليم أبنائها الحرص على نيل المؤهلات بتفوق، وبالرغم من تذمر الطبقة المتوسطة في الهند من مستوى التعليم المدرسي فيها، إلا أنّ أولياء الأمور لم يقفوا مكتوفي الأيدي، بل يعملون ويكدون ليل نهار لكي يتمكنوا من توفير المال الكافي لتعليم أبنائهم خارج ساعات الدَّوام المدرسي، وللعلم فإنَّ ولي الأمر في الهند يقوم بدفع مبلغ رمزي لا يتجاوز الخمسين روبية هندية شهرياً كرسم مدرسي، لذلك فالفقير يكون بين دفع الرسوم للمدرسة والدروس الأخرى للمدرسين، وآتت جهودهم ثمارها فانتشرت الصحوة التعليمية بعدما أصبحوا يرون أن الرؤساء التنفيذيين أو نوابهم ﻷعظم الشركات التقنية أو الصناعية العالمية من بني جلدتهم، فاتخذوا من جملة: "ما وصل إليه هؤلاء أستطيع أن أوصل ابني إليه" شعارًا لهم، لذلك لم أعد أرفع حاجبي دهشة وأنا أرنو من خلال نافذة المركبة إلى طفل انكب على حل واجباته تحت تلك المظلة الزرقاء على الرصيف، التي هي في الحقيقة منزل أسرته وسكنها -وما أكثر انتشارها في مومباي-،  فليس الفقر بالنسبة لهم عيبًا، بل الجهل هو أعظم العيوب، لذلك تجد الطلاب صباحاً يتوجهون إلى مدارسهم جذلين نشيطين، حتى كأنك تكاد تلمس سعادتهم بعلمهم بأنامل قلبك...

الكثير منِّا اطلع على مقال الكاتب عبد الله الغامدي (جيل مضروب)، ومن لم يفعل فليدر أحد محركات البحث الشبكي ليستمتع بقراءة ذلك المقال، والذي وصف فيه الحال التي آلت إليها الأجيال الحالية من أبنائنا، وأوعز ذلك إلى أسلوب التنشئة الذي اتبعناه ونتبعه معهم حين قال: (ﻷنكم حرمتموهم من لذة العلم والإيمان فخربت القلوب)، وطالبنا بتغيير سياسة التربية وأن نُغير فكرة (لا أريد أن يشعر ابني بأنّه محروم من شيء)، ولن أشرح التوصيات هنا فهي موجودة في سطور الغامدي لمن أراد أن يطلع عليها، ولكنني هنا بصدد درسي الثالث الذي استخلصته من زيارتي لجمهورية الهند، وهو "الإلحاح"، فهؤلاء القوم لديهم إلحاح عجيب للوصول للقمة في العلم، ويسعون بكل ما أوتوا من جهد وصبر للحصول على فرصة علم في مؤسسات التعليم العالي، لذلك نجد مخرجات "المعهد الهندي للتكنولوجيا IIT" ينافسون مخرجات أرقى الجامعات حول العالم كمعهد ماساتشوتس للتكنولوجيا MIT، وليس هذا وحسب وإنّما الكثير من المؤسسات التعليمية تحرص على تخريج الطالب مسلحاً بالجانبين النظري والعملي على أكمل وجه، وبسبب ذلك كانت النتيجة هي تسابق كبار الشركات العملاقة العالمية على استقطاب مخرجات تلك المؤسسات التعليمية، فلماذا لا نغرس هذه الخصلة في نفوس أبنائنا ونجعلها ديدناً لهم، وأن نبذل الجهد معهم في توزيع أوقات يومهم بحيث نجعل الحركة والإحساس بالمسؤولية وتحمل تبعات قراراتهم هي الرفيق الدائم لهم، الإلحاح على تحقيق الهدف يخلق بذرة التنافس الإيجابي مع الذات والغير، ولكنه لا يأتي اعتباطاً، فالمرء يولد ويكون الإلحاح إحدى بطاقات الضغط التي يستخدمها للحصول على لعبة أو حلوى، وذلك باستخدام أسلوب البكاء أو العِناد أو غيرها، وهنا يأتي دور الأبوين في ضبط اتجاه بوصلة نوعية الإلحاح، وأين ومتى يمكنه استخدامه ليصبح قوياً بعلمه، صالحاً لوطنه وأمته، ويصل به إلى رضوان الله فيرتاح من صخب الماديات ويركن إلى القناعة مهمة في كل أبجديات الحياة إلا في العلم، عليه أن يكون ملحاً في الاستزادة مادام على قيد الحياة...

 

 

توقيع: "أعلى درجات الجهل هي أن ترفض فكرة لا تعرف عنها أي شيء"،،، واين داير.