مؤسسات التعليم العالي: من يتحمَّل الفاتورة الاقتصادية للغياب الجماعي؟

 

 

د. سَيْف المعمري

كَمْ هُو مُؤلم أنْ تبعثَ مُؤسَّسات التعليم العالي برسالة إلى طلابها تُشجِّعهم فيها على اللامبالاة وعدم تحمُّل المسؤولية، وهي في الأصل تعملُ على بناء شخصية مُنضبطة، ومُلتزمة، تغرس فيها تقديرَ الإمكانات التي تُسخِّرها الحكومة لتعليمها! كيف جعلتْ مُؤسسات التعليم العالي -وفي مقدمتها الجامعة الأم- من أمر الغياب الجماعي في الأسبوع الأول واقعاً لا مفرَّ منه؟! وكيف أصبح الطالب يتحكَّم في مَوْعد بدء الدراسة بدلا من أن تتحكَّم في الأمر المؤسسة نفسها؟! ولماذا لا تكترثُ هذه المؤسسات للثمن التربوي والاقتصادي المترتب على هذه النهج؟ أم أنَّنا أمام لامبالاة كبيرة تضرب مؤسسات التعليم العالي التي يُعوَّل عليها تخريج كوارد بشرية مسلحة بقيم الالتزام والانضباط.

أطرحُ هذه الأسئلة على المعنيين الذين يتفرجون على ما يجري مع بداية كل عام دراسي من غياب بالجملة للطلاب؛ حيث يحضر الأساتذة ولا يجدون أحدًا في القاعات الدراسية، لقد ذهبتُ في الأسبوع الأول -الذي سبق إجازة العيد- إلى ثلاث قاعات دراسية لثلاث مقررات أقوم بتدريسها، ولم أجد إلا في قاعة واحدة طالبيْن، وقلتُ لنفسي: كيف يذهبُ الأستاذ إلى قاعة المحاضرات في الساعة الرابعة عصراً، وأحيانا الساعة السادسة، بينما الطلاب يغطون في نوم عميق، أو يعبثون في المنزل بأجهزتهم، أو يتجوَّلون في المراكز التجارية؟! لقد أعطتْ هذه المؤسسات حُرية عدم الحضور للطالب بعدة طرق؛ أهمها: تخصيص الأسبوع الأول من كل عام جامعي لما يسمى بـ"الحذف والإضافة"، مع أنَّ التسجيل يتم إلكترونيًّا قبل بدء العام الجامعي، والذين يحتاجون الحذف أو الإضافة هُم قلة، ولكن أصبح هذا الأسبوع مُبرِّرا لإشاعة الفوضى وإضعاف أثر توظيف التكنولوجيا في عملية التسجيل؛ بحيث ينتظم الطلاب في محاضراتهم من اليوم الأول وهذا الذي يجري في معظم مؤسسات التعليم العالي في العالم، وكنت قد تواجدتُ في إحداها لفترة أربع سنوات، وبفضل إرسائها للقواعد الأكاديمية كانت تحقق مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية.

ولأنَّ الأمرَ على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية؛ لأنه يتكرَّر سنويًّا دون أية التفاتة إليه، قرَّرتُ أن أثيره هنا لعله يكون حجرا يُحرِّك المياه الراكدة في هذه المؤسسات، التي وجدتُ من خلال بعض البحث أنَّ الأمر لا يقتصر على الغياب الجماعي، ولكنْ هناك طُلاب في مُؤسسات أخرى لم يقوموا بعملية التسجيل بعد، وأنَّ هذا الأسبوع الذي يُعدُّ الأسبوع الثالث سوف يُخصَّص لإكمال عملية التسجيل؛ وبالتالي فإنَّ المدة الزمنية للفصل الدراسي سوف يُستقطع منها ثلاثة أسابيع أي 21 يوماً، هذا فضلاً عن الإجازات المتوقعة خلال هذا الفصل، مما يُعدُّ هدرا كبيراً من المدة الزمنية سيترتَّب عليه أيضاً اقتطاع من المنهج الدراسي؛ ممَّا يقودُ إلى تضييق فرص الطلاب للتمكُّن من الحد الأدنى، ومن ثمَّ نعود لنسأل أنفسنا: لماذا لا يتقدَّم ملف الجودة في مؤسسات التعليم العالي؟ ولماذا يفشل كثيرٌ من خريجي مؤسسات التعليم العالي في اجتياز اختبارات التوظيف؟!

إنَّ هناك منهجا لا تكترث به مؤسسات التعليم العالي وهو المنهج الخفي الذي يتمثَّل في قواعد التعامل والانضباط داخل المؤسسة؛ سواء كانت مدرسة أو كلية أو جامعة، ومن خلال التساهل في الغياب الجماعي يتعلم الطلاب الجُدد من الطلاب الذين سبقوهم استثناءَ هذا الأسبوع من الدراسة، ويتعلَّمون أنَّ إدارات هذه المؤسسات تغضُّ النظر عن ذلك من أجل إكمال استعداداتها المتأخرة لبدء العام الدراسي، والدليل هو عدم وجود أية إجراءات من هذه المؤسسات كرفع النسبة المخصَّصة للغياب في هذا الأسبوع، وهنا يشعر الطلب أنَّ هناك مصالحَ مُتبادلة بين الطرفين، وإن لم يتم التصريح بذلك، مثل هذا الفهم يقود إلى ما هو أعمق، ويُمكن أن أوجزه في النقاط الآتية:

- أولاً: تضعف المسؤولية الوطنية لمؤسسات التعليم العالي، والمتمثلة في تعزيز المسؤولية والالتزام لدى الطلاب، وهذا جزء مهم من رسالة مؤسسات التعليم العالي، وتنتج هذه المؤسسات أفرادًا لا مبالين قد يضرون بمصلحة وطنهم تحت أي مُبرِّر، بل إنَّ بعضهم تقل دافعيته ويتعثر في دراسته، ويبدأ في العبث بالخطة الدراسية؛ حيث يُسجِّل المقررات التي تتلاءم مع فترة الظهيرة، ويحذف المقرَّرات الصباحية التي تتعارض مع مواعيد النوم الصباحي، وبدلاً من أن ينجز الطالب دراسته في الفترة المحددة يحتاج إلى سنوات أكثر.

- ثانياً: تضعفُ توجهات الجودة والاعتماد في هذه المؤسسات؛ لأن هذه التوجهات هي نهج قبل أن تكون شهادات بعد أن تحصل عليها المؤسسات تضرب بكل مُتطلبات الجودة عرض الحائط، وإلا كيف يمكن أن تحصل هذه الفوضى في مؤسسات معتمدة دوليًّا؟ ألا يجدر بالإدارات الدفاع عن معايير الجودة على أرض الواقع كما تُدافع عنها في المستندات الفصلية والسنوية التي ترسل للعديد من الجهات.

- ثالثاً: يُكلِّف هذا الأسبوع الضائع اقتصادَ البلد مئات الآلاف من الريالات التي تذهبُ ثمناً لرواتب الأساتذة ومعظم من غير العمانيين، ورسوم البعثات، وتكاليف السكن والإعاشة في المؤسسات التي تتحمَّل هذه الكلفة، أو الرواتب التي تقدم للطلاب، أو رسوم النقل...وغيرها، فمن يتحمَّل هذه التكلفة في ظلِّ كلِّ هذه الأوضاع الاقتصادية التي تمرُّ بها البلد؟ وهل يُعقل أن تقود مؤسسات التعليم عملية هدر اقتصادية كبرى والأصل فيها أن تكون نموذجا لبقية مؤسسات البلد؟ هل يُعقل أن يجري كل هذا على الأرض والمسؤولين عن التعليم العالي ورؤساء الجامعات وعمداء الكليات يقبعون في مكاتبهم بدون أية ردة فعل حتى وإن كانت إدانة خجولة لما يجري كل عام؟!

- رابعاً: أضعف هذا النهج من سلطة الأستاذ الجامعي، وفي المقابل عزَّز من سُلطة الطالب ووسَّع نطاق حريته؛ فأي تعليم يُمكن أن يحدث في ظل اختلال هذه العلاقة بين الأستاذ والطالب؛ فالأستاذ لا يملك سلطة تسجيل الغياب في هذا الأسبوع؛ لأنَّ النسبة لا تحسب مع بقية الأسابيع، وفي الوقت الذي تطالب فيه المؤسسات الأستاذ بعشرات المتطلبات التي بعضها يربتط بعمله وبعضها الآخر لا يرتبط، وفي الوقت الذي تخصص عشرات للجان للتدقيق في عمل الأستاذ، يُترك الطالب حرًّا طليقاً، يُقرِّر متى يأتي ومتى لا يأتي، ومتى يمتحن ومتى لا يمتحن، يعمل على جعل الأستاذ دائما موضع مساءلة إن لم تعجبه الخطة الدراسية، وإن لم يرضى عن مُتطلبات المقرر، وإن لم تعجبه الدرجة التي يحصل عليها، وفي الوقت الذي يتم فيه تأطير حقوق الطلاب والتأكيد عليها، جعل حقوق الأكاديميين غامضة مطاطة ومبهمة، وفي الوقت الذي تنشأ مجالس استشارية للطلاب لتنظيم علاقتهم بالمؤسسة، يُحرم الأكاديميون من مثل هذه المجالس.

لا شكَّ أنك تستطيع أن تحكم على صحة مؤسسات التعليم العالي من الأسبوع الأول، فإنْ كان هذا الأسبوع يمرُّ بهذه الطريقة العبثية التي نعايشها منذ سنوات، فإنَّ هذه المؤسسات تمرُّ بأزمة منهجية وقيمية في الوقت نفسه، وتتفاقم الأزمة إن كانت المؤسسة التي تُعاني منها لها حضورها وأقدميتها، وطموحاتها في أن تكون رائدة وطنيًّا، ومعتمدة عالميًّا، وتزداد آثار الأزمة إن كانت فاتورة كل ذلك تدفعها الحكومة التي تحاول أن تغلق منافذ الهدر في المال العام من خلال التعليم والتثقيف، وتقديم المثال الحسن.. فأين المثال الحسن يا مؤسسات التعليم العالي؟!