آليات التعاطي الآمن مع المستقبل

د. عبدالله عبدالرزاق باحجاج 

بين كل فترة وأخرى، تظهر مستجدات جديدة تشغل الرأي العام، ويبدو أن هذا السيناريو سيشكل ملامح المرحلة الوطنية المقبلة، وفي كل أحداث جديدة، قد تتأثر البنية النفسية والمعنوية للباحثين عن عمل والمنتظرين تحسين أوضاعهم المالية مما سيؤثر على منظومة المواطنة وبناها الفوقية والتحتية، وسوف تتقاطع معها تداعيات معالجات الأزمة النفطية المثيرة للجدل التي يغلب عليها نظام الجبايات المالية (يرجى مراجعة مقالنا الأخير بعنوان "نظام الجبايات.. يصنع لنا مجتمعا جديدا") أي توفير السيولة المالية من اقتطاعات واستحقاقات المواطنين، وليس من خلال القطاعات الإنتاجية، وهنا، ندعو إلى تصور المستقبل (القريب) لمشهدنا الوطني في ضوء تلك المقاربتين؟ والأخطر، تداخلهما في الظرفية الزمنية الراهنة، أي تداخل مرحلة عدم الاستقرار المالي للبلاد وانكشاف الاخفاقات والفساد بمختلف أنواعه، والتصور المقترح تحتمه الكثير من الضرورات العاجلة لو استمر هذا المشهد بتلك الثنائية الحادة. 

سنترك الإجابة عن التساؤل للاستشراف الذاتي، ومعني به في المقام الأول الحكومة، وبالتالي نتساءل عن مدى اهتمامها بمستقبل العلاقة بين المجتمع والسلطة الحكوميّة؟ وهي علاقة قد وصلت الآن إلى مستوى يستلزم التدخل السياسي السريع، فرغم أنّ بلادنا قد دشنت تحولا وطنيا جديدا غير مسبوق في تاريخها الحديث تحت وطأة الأزمة النفطية، إلا أنّ برنامجه التنفيذي سري – إن كان هناك برنامجا تنفيذا أصلا – وهنا لا نفرق بين الصمت والسرية في ظل حالة الغموض الراهنة، رغم أنّ ماهية التحول نفسه، وطبيعة المرحلة كذلك تحتم الشفافية.. لماذا؟ حتى تصل رسالة التحول للمجتمع ويستوعب مبرراتها، بدلا من أن يتفاجأ بمنشور مالي أو توجه تطبيقي بين كل فترة. 

ويزيد من تعقيدات الغموض المجتمعي صدور تصريحات متباينة لمستقبلنا المالي، من بينها أنباء عن قرض محتمل بقيمة 5.6 مليار دولار، وتلميحات مقلقة مثل التوجه نحو رفع جزئي عن دعم الماء والكهرباء... إلخ وهذا كله يحدث في ظل ما اتخذته الحكومة من سياسات مالية فيها آلام اجتماعية متصاعدة، رغم ارتفاع أسعار النفط إلى مشارف الخمسين دولارا للبرميل. فكيف لو كانت الأسعار 20 دولارا؟ الحيرة وعدم وضوح ما يجري وما سوف يجري، يسيطران على قطاعات عريضة من المجتمع، وعقلنا المجتمعي قد توقف عن فهم ما يجري في ظل صمت الحكومة وعزوفها آلياتها وميكانيزماتها عن وضع المجتمع في قلب ما يجري وما سوف يجري، وبالتالي لن نستغرب من بروز ظاهرة الشائعات وتصديقها، وكلما واصلت الحكومة في صمتها، واطلقت أفعالها تحصد المكتسبات الاجتماعية، كلما تصاعدت الشائعات، والحديث عن جدوى خطط بعينها اتخذت في السابق. فمثلا أين كانت دراسة جدوى الاقتصادية لمطار صحار الذي انفقت عليه الدولة 63 مليون ريال؟ وماذا عن سحب الترقيات وسياحة الكرفانات في ظفار، هل أتت ثمارها؟ وماهي مستجدات قضية اتفاقية التجارة الحرة مع أمريكا؟ وأين الحكومة من مفاجأة أن الانفاق على المرتبات بقطاعي النفط والغاز أكثر بكثير مما تحصل عليه بلادنا من إيرادات هذا القطاع الحيوي. وهنا كان ينبغي التوضيح بدلا من التصريح العام، فأين تكمن الإشكالية في ظل تعداد المواطنين البالغين مليونين وثلاثمائة ألف نسمة فقط؟ هل تكمن في بيع الغاز بسعر التراب وفي المبالغة في مرتبات وامتيازات الأطر والكوادر العاملة في هذين القطاعين؟ وهى امتيازات خيالية لن يصدقها العقل.. حتى الأسر لها علاوات متعددة..  

كم من مشروع قد أقيم بالملايين ولم نستفد منه، ولن نجد مسؤولا كبيرا ولا صغيرا- إلا نادرا - لم يتوسط أو يوصي بفرص عمل، وهذا لا يعني أننا نؤكد ما تشير إليه الأنباء حول الواسطات الأخيرة، وإنّما نضع القضيّة في سياقاتها العامة حتى نفهم الوضع العام السائد، فكم من استحقاقات وظيفية ومواقع قيادية قد أقصيت عن مساراتها وذهبت لمسارات أخرى أقل كفاءة وقدرة، والسبب دائما، الواسطات، فالقضايا لا تتجزأ. 

والدخول في جدال حول الجزئيات لها منظوران، الأول اختزال قضية الواسطات في شخصيات مما قد يظهر لنا الكل بريئا ما عدا المدانين بالوثائق التي تنشر حتى الآن، رغم أنّ الكل مدان حتى يثبت العكس، والثاني قد يصرف الاهتمام الوطني عن قضايا كبرى مما يظهر المشهد وكأننا نعالج أزماتنا الحقيقية بتفجير أزمات فرعية ومهمة، لماذا؟ لشغل الرأي العام الضاغط عن قضاياه المرحلية الكبرى بهدف تمرير الحلول المالية التي قلنا عنها في مقالات كثيرة أنّها لا تصلح أبدا لبلد مثل سلطنة عمان- وبينا الأسباب- بدليل، منها غياب الحديث الآن عن القضايا الكبرى كأسعار الوقود، وقضية مطار صحار.. إلخ، وذلكم المنظوران هما تصوّر للسياقات التحليلية، ولا يعبران عن الهدف المستهدف للانكشافات، بمعنى أنّها قد لا تكون مستهدفة أساسا من الانكشافات، لكنها تعطي هذين السيناريوهين. وهناك منظور ثالث يفرض نفسه ضمن السياقين الواقعي والتحليلي، وهو أنّ شغل بلادنا بمشاكلها الداخلية والمساس بمفاصلها السياسية المؤثرة عالميا، وهو هدف قوى إقليمية وربما عالمية، فنجاحات بلادنا في قضايا إقليمية ساخنة جدا، قد سبب انزعاجات كبيرة لها، ولو استمررنا في نهج الانكشافات سواء كان ذلك لدواعٍ مهنيّة أو سياسيّة، وكذلك عدم التراجع عن الحلول المالية الجانحة، فسوف تغرق شأننا الداخلي، وهناك الكثير من المشكلات قد تتفاقم في أي لحظة، فهل ينبغي أن نقفز فوق التجاوزات والاخفاقات؟ لا يمكننا أبدا أن نعرقل مسيرة الحرية مهما كانت نوايا ممارسيها ومقاصدهم- مهنية أم سياسية- ما دامت تكشف الحقائق، وقادرة على المُحاججة القضائية، لكن تزامنها مع مرحلة التحول الوطني الاقتصادي وتداعياته الاجتماعية، يشكل القلق الحقيقي، وهذا القلق سيتصاعد كثيرا في ظل أزمة الأداء الحكومي سالفة الذكر. 

إذن، ما الحل؟ استخلاصا للعبرة وتفعليها في الاستحقاقات المقبلة، فإنّ التحول الوطني الجديد الذي تعبر عنه رؤية 2040، يفترض الاستعداد الجيّد له، ليس بالحسابات الضيّقة والملاسنات الديماغوجية، وهي متوقعة في حالة استمرار الشائعات والانكشافات، ولا كذلك بالاستمرار بنفس الأفكار والفاعلين حتى لو كانوا ناجحين، فكيف بهم الذين قادونا نحو الفشل. إنّ التحول في الخطط والسياسات والمسارات ينبغي أن يقابل تحولا مماثلا في الفاعلين وإعادة هيكلة كل المؤسسات وتفعيل ديناميكية العمل الحكومي بقيادة ملتزمة ومساءلة، ولن نتمكن من تهدئة الأمور ومواجهة مرحلة الانكشافات إلا بالتغيير وبالتأهيل السياسي لكل الفاعلين والمؤسسات الحكوميّة بمن فيهم الرؤساء التنفيذيون للشركات الحكومية؛ مع استحداث مرجعية أخلاقية للعمل الوطني تؤسس عهدا جديدا استخلاصا من تجربة الماضي وانكشافاتها المعاصرة وتطلعاتنا المستقبلية. 

وفي هذا العهد الجديد.. المأمول.. ينبغي الرهان على القضاء المستقل بعد إعادة هيكلته وتأهيل أطره وكوادره وتحريك بعضهم، وكذلك على الرقابة المالية والإدارية لمكافحة الفساد، فهذه الرقابة تعاني حاليا من إشكالية تفعيل تقاريرها التي لا يُعلم مصير معظمها، وهنا نقترح أن تكون تبعيتها لمجلس الشورى كون إحدى أهم صلاحياته الجانب الرقابي، مع ما يستلزم ذلك من قدرته على تحريك الدعوى العمومية ومتابعتها قضائيا وسياسيا..  

تلكم حتميّات أساسية للتغير والتأهيل الذي ينبغي أن يتناغم مع حتمية التحول الوطني الجديد لمواجهة كبرى التحديات المقبلة، ودون ذلك، فإنّ مشهدنا الوطني سيواجه تحديات غير مسبوقة على المستوى الاجتماعي والسياسي. 

تعليق عبر الفيس بوك