"فتاة البرتقال"

عهود الأشخريَّة

في مقالي هذا سأتحدث عن رواية "فتاة البرتقال"، لأسباب كثيرة؛ أولها: أنها تتشابه مع أفكاري إلى حد كبير جدا، فمثلا أنا من الصنف الذي يهتم بأصغر التفاصيل التي تمر في حياتي لأنني مؤمنة بأنها ستُشكّل لديّ فكرة جديدة أو حتى قناعة بشيء لم ألتفت له مسبقا. وكما اعتدنا على جوستاين غاردر في "عالم صوفي"، كاتب يطرح السؤال بأسلوب بسيط جدا ورغم بساطته لا يمكن أن تكون له إجابة مباشرة، وربما لا توجد إجابة يقينية على الإطلاق، وإنما سؤال يؤدي إلى سؤال آخر. أسئلة من نوع: من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟ وما هي الفلسفة؟...إلخ، وهنا هو بالأسلوب ذاته.

تبدأ روايته "فتاة البرتقال" برسالة وضعها الأب قبل أن يموت إلى ابنه جورج في عربة طفولته، ومن هنا تبدأ القصة، فما هي هذه الرسالة؟ ولم تركها في هذا المكان بالذات؟ الآن بدأت أطرح هذه التساؤلات، فلا يمكن أن يكتب جوستاين غاردر شيئا لمجرد العبث أو لمجرد تعبئة الصفحات بالسطور، هذا ما صرت أؤمن به بعد قراءة (عالم صوفي). عندما وصلت الرسالة للابن جورج اعتكف في غرفته وحيدا معها ليستكشف ما الذي يريد والده قوله له وما هو هذا الشيء الذي جعل والده حريصا على وضع الرسالة في المكان الصحيح حتى تصل لابنه حين يكبر. مات الأب جون أولاف وابنه جورج لا يزال في الرابعة من عمره، كان قد عاش معه فترة لا بأس بها معه يجعله متمسكا بكتابة قصة "فتاة البرتقال" له بكامل تفاصيلها، فمن هي فتاة البرتقال؟ أنا لن أروي قصتها كاملة، بل سأكتفي فقط بلمحة بسيطة عن اللقاءات الأولى وكيف بدأت تطرح التساؤلات على الأب جون أولاف، وكيف يمكن من ذلك أن تتشكل لدينا خلفية عن حياة كاملة، أعني أن المهم في هذه القصة ليس القصة ذاتها، بل الفكرة من القصة.

بدأت قصة "فتاة البرتقال" حين كان جون أولاف في محطة القطار ينتظر أن تبدأ رحلته، فلمح فتاة تحمل كيسا ورقيا مليئا بالبرتقال، أشفق جون على الفتاة لأنه كان يرى أن الكيس ثقيل جدا عليها، لذلك ترسخت صورتها في ذهنه، فلمحها مرة أخرى في نفس القطار وها هو ينظر إليها بالخوف ذاته من أن يسقط عنها كيس البرتقال الذي يحتوي على الكثير من حبات البرتقال، وحدث ما توقعته جون؛ فقد حدثت هزة للقطار وأحس أنه عليه إنقاذ كيس البرتقال ولكنه لسوء تقدير منه وقع الكيس وتناثرت حبات البرتقال في القطار، حتى إن البعض استاء من ذلك، وصار ينظر إلى جون وفتاة البرتقال بنظرات غضب. نزلت فتاة البرتقال بعدما أخذت برتقالة واحدة من تلك الكمية الكبيرة، وهذا من بدأ يثير التساؤلات لجورج، لماذا كانت تريد كل ذلك البرتقال في حين أنها هربت ولم تأخذ سوى برتقالة واحدة؟ يقول جون أولاف: "رحت أفكر وأفكر في كل تلك البرتقالات. ماذا كانت تنوي أن تفعل بها؟ هل كانت ترغب في تقشيرها وأكلها حبة تلو الأخرى، وقطعة بعد قطعة، عند الفطور مثلا أو عند الغداء؟ كم يحزنني أن أحتمل منها ذلك! فلعلها كانت مريضة أو خاضعة لحمية خاصة. وأقلقتني هذه الفكرة أيضا وانشغلت بها، لكن الاحتمالات كانت كثيرة..."، يعني احتمالات حاجتها لهذه الكمية من البرتقال فربما كانت تحتاجها لصنع الحلويات لحفلة ما، أو تصنع منها عصيرا لنفسها وتحتفظ به، إلى أفكار كثيرة خطرت على بال جون أولاف، فمن هنا وقع في فخ الأسئلة التي لن تنتهي حتى آخر يوم في حياته، ومن هنا صار مأسورا بهذه الفتاة، عاشقا لها، هذه الفتاة التي اعتبرها في البداية غريبة أطوار، وها هي الآن تبدأ في صنع قصة حياة لها وله تستحق أن تُعاش بكامل ملامحها.

ومن تلك اللحظة في القطار بدأ جون بالبحث عن الفتاة، ركّز في هذا البحث على الأماكن التي يتوفر فيها البرتقال الجيد والذي يباع في أكياس ورقية كالتي كانت تحملها الفتاة، وبعد فترة من البحث، التقيا بالصدفة في مقهى كان يقصده لبعض اللقاءات وهذه المرة أيضا كان بصحبتها كيس ورقي مليء بالبرتقال، ثم مجددا تختفي الفتاة، وفي اللقاء الثالث يتحدث معها جورج عن حقيقة بحثه عنها فتطلب منه أن ينظر ستة أشهر حتى موعد اللقاء التالي، وهو لا يفهم حقا لم كل هذه المدة الزمنية! ولم ستة أشهر بالتحديد، إلا أنه وجد نفسه مجبرا على خرق قوانين هذه الفتاة ويبدأ من جديد في البحث عنها إلى آخر القصة.

الجدير بالذكر أن جوستاين غاردر يطرح الكثير من الثيمات في هذه الرواية، البحث والمعرفة والأمل والقلق والموت والسفر إلى المجهول. كان مع كل لقاء يطرح الأسئلة التي تجعلنا في حالة بحث دائم عن الأسرار وراء كل هذه الأسئلة، سر الوقت والمكان والقوانين الثابتة التي لم يكن ليحدث أي شيء بدون كسرها، فظروف الإنسان وأفكاره في تحولات دائمة لا يمكننا معاملتها بالمثالية ذاتها في كل مرة.

... رواية "فتاة البرتقال" تدعونا كذلك إلى عدم اهمال التفاصيل الصغيرة، فمن كيس مُهمل مثلا نستطيع أن نبدأ بطرح التساؤلات حتى نصل إلى فهم أشياء كثيرة متعلقة بالكون والوجود والنشأة.

Ohood-Alashkhari@hotmail.com

تعليق عبر الفيس بوك