"المؤتمراتايا" العربيّة

عبيدلي العبيدلي

بخلاف ما يعتقده الكثيرون من المثقفين العرب، بمن فيهم اليساريون، سبق العديد من الكتاب من الفلاسفة الغربيين، أمثال جون جاك روسو، استخدام مصطلح البروليتاريا المشتق من أصله من(proletarius) كارل ماركس وفريدريك انغلز، وكان المقصود به حينها "تلك الفئة من الشعب التي ليس بحوزتها شيء".

لكن تميّز ماركس وانغلز، عنهم كما تقول المراجع "منذ صدور البيان الشيوعي سنة 1848 - بتكليف من تنظيم الشيوعيين في مؤتمر عقده بلندن عام 1847، بهدف وضع برنامج مفصل للحزب الشيوعي- استخدام مصطلح البروليتاريا بطبقة الذين لا يملكون وسائل الإنتاج (وسائل عملها)، مما يضطرهم إلى بيع قوة عملهم لمالكي وسائل الإنتاج (الرأسماليين/البرجوازيين)، ينتجون بذلك فائض القيمة (فائض القيمة = قيمة المنتوج - الرأسمال الثابت - الرأسمال المتغير)".

على النحو ذاته، مع الاختلاف في المواصفات ومستوى صدق الرغبة في التغيير والقدرة عليه، بدأت تظهر اليوم في المجتمعات العربية طبقة جديدة، تماما كما نشأت البروليتاريا، يمكن أن نصفها مجازا بـ "المؤتمراتايا"، والمقصود بها هنا تلك الفئة التي تسلقت هرم المعارضات العربية ووصلت إلى قمته، تاركة القوى الأخرى أسفلها، وأصبحت تمارس مهامها "النضاليّة"، وسط غرف الفنادق من فئة الخمس نجوم، وأروقة المنظمات الدوليّة والإقليمية، البعيدة عن ساحات النضال الرئيسة.

لكن قبل الخوض في تشخيص هذه الظاهرة، نلفت النظر إلى نقاط في غاية الأهمية وهي:

1. أنّ الظاهرة لا تشمل جميع قوى المعارضة العربية، بقدر ما هي حالة عامة بدأت تتسلل إلى صفوف المعارضة، ومن ثمّ فمن الضرورة بمكان التحذير منها، خشية استمرار توسعها. وبالتالي فمن لا ينطبق عليه هذا التوصيف لا ينضوي تحت هذه الفئة.

2. أنّ صدر قوى المعارضة ينبغي أن يتسع كي يقرأ الظاهرة بعيدًا عن أي انفعال يحول دون أن تمارس هذه المعارضة دورها الإيجابي في توليد بيئة صحية لمعالجة الظاهرة والحد من سلبياتها.

3. أنّ التحذير من سلبيات الظاهرة، لا ينبغي أن يؤخذ بمثابة الدعوة المطلقة لمقاطعة تلك المؤتمرات، بقدر ما هي مناشدة صادقة لوضعها في إطارها الصحيح، وحيّزها المطلوب الذي لا يحولها إلى الشكل الرئيس من أشكال ممارسة القوى المعارضة لدورها التطويري.

4. أنّ نقد المعارضة لا يعفي الأنظمة العربية الحاكمة من مسؤوليتها التاريخية التي كانت السبب في تطوير معارضات كالتي نتحدث عنها.

لكن ما يحث على الدعوة للكشف عن هذه الظاهرة، كونها باتت تولد فئة آخذة في التشكل والنمو، حتى أضحت تمثل تهديدًا مباشرًا وحقيقيًا على مسارات حركة التغيير العربية بفضل الأسباب التالية:

1. أنّها تلك الفئة من المعارضات التي بدأت تتبلور ككتلة اجتماعية تقترب من التماسك، لها مصالحها الخاصة، وامتيازاتها المتنامية التي تنعم بها، على مستوى الدولة الواحدة، أو على النطاق القومي الشامل، وأخذت تطرح نفسها ممثلا وحيدًا لا يقبل المنافسة "للشعب". بل إنّها لا تتردد أن تحارب بضراوة أشد منافسيها من القوى المعارضة الأخرى، في سياق صراعاتها ضد السلطات التي تدعي أنها تتصدى لها سلما أو بأشكال عنيفة. ما يضاعف من خطورتها، أنّها راحت تمعن في ترويجها لضرورة المشاركة في تلك المؤتمرات فبدأت تضعها في أعلى قمة سقف مهماتها الاستراتيجية.

2. أنّها تركت ساحات نضالاتها الأساسيّة، بما تضعه على عاتقها من مسؤوليات تنظيمية وسياسية، وتفرغت كليا للمشاركة في تلك المؤتمرات التي مهما بلغ مستوى ما تحققه من مكاسب، لكنها تبقى ضئيلة عندما تقارن بتلك التي يحققها الالتفات نحو التنظيم، من أجل إعادة ترتيب صفوفه، وإعادة بناء هياكله التي دمرت نسبة عالية منها حملات الاعتقال والتشريد التي تعرض لها خلال مواجهاته مع السلطة التي يناضل من أجل إصلاحها أو تغييرها.

3. أنّها فقدت تلمّسها للخطورة التي باتت تمثلها المشاركة في فعاليات تبدو وكأنّها تحقق المكاسب وتراكمها. وغاب عنها وهي في أوج نشاطها "المؤتمراتي"، أن تدقق في هويّة المنظمين الفعليين لها، الذين يحرصون على التستر وراء يافطات تبدو براقة مثل منظمات الأمم المتحدة وأخرى شبيهة لها، في حين تختفي وراء تمويلها منظمات أخرى ليس خافيا على أحد موقفها العدائي الشرس ضد مشرعات التحرر العربية. بل كشفت بعض الوثائق عن بصمات الكيان الصهيوني في تلك الفعاليات التي تلتحف بعباءات الشعارات التحررية البراقة.

4. أنّها بدأت في تشييد أسيجة بينها وبين جماهيرها التي لم تعد ترى من قياداتها أكثر من صور مشاركتها في تلك المؤتمرات، ومن ثم تراجع مستوى إحساسها بواقع تلك الجماهير وهمومها، بعد أن تحول همها الأساس البروز في تلك المؤتمرات، والحرص على عدم تفويت أي منها، افتراضا خاطئا منها أنها تقوم بذلك خدمة للجماهير، وتجسيدًا للنضال من أجل تحقيق مطالبها.

5. أنّها بمشاركتها في تلك المؤتمرات، بغض النظر عن صدق نواياها، توسع من دائرة حضور تلك الفعاليات في المساحة التي تحتلها المعارضات العربية؛ الأمر الذي يسهل على الدوائر الاستخباراتية، وخصوصًا الأمريكية منها إنجاح مؤامراتها الاختراقية التي تحرف القوى المعارضة عن مساراتها الصحيحة التي ينبغي أن تسلكها، وتبعدها عن وسطها الجماهيري التي هي - تلك المعرضات - في أمس الحاجة له، وهو - ذلك الوسط - في أعلى درجات تأهبه للانخراط في برامجها السياسية.

مرة أخرى، ليس المقصود هنا التشكيك في نوايا أحد، ولا الطعن في طوايا البعض الآخر، بقدر ما كان الهدف، التحذير من ظاهرة، ما لم يجر التصدي لها ووضعها في إطارها الصحيح، وتحجيمها إلى المستوى الطبيعي، فمن شأنها تخريب قوى التحرر والتغيير العربيةـ التي تسرب لصفوفها هذا الميكروب - ان لم يؤدِ إلى تدميرها.

تعليق عبر الفيس بوك