تحديات أمام السياسة الخارجية العمانية

زاهر المحروقي

تعيشُ المنطقة العربية حالياً ظروفاً صعبة، جعلتْ من الحليم حيراناً؛ إذ اختلط الحابل بالنابل وأشكل الأمر على الناس، فلم يعودوا يعرفون أين يقف الحق ومع من، وأين يقف الباطل ومع من؟ فظهرت على الساحة سياسة إقامة الأحلاف، تحت مسميات مختلفة، لكنّ الهدف واضح؛ وأصبح العدو صديقاً والصديق عدواً، وصارت الدول التي لا يُعرف عنها مواقف قومية عبر التاريخ، أصبحت تقود الأمة، فيما تراجعت الدول القائدة إلى مجرد تابعة تنقاد بالمال، وأصبح الأخ يغزو أخاه، فاختفى مفهوم "الأمة" من القاموس العربي، واتجه العرب إلى المزيد من الانقسامات، لأن لا صوت يعلو على صوت المال.

ووسط هذه الظروف، استطاعت عُمان أن تحافظ على خطها المستقيم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير، ورفضت الانضمام إلى سياسة الأحلاف، إذا كانت تلك الأحلاف ستوجِّه نيرانها إلى الأشقاء والأصدقاء، ممّا أكسب السلطنة مكانة كبرى وأهّلها بأن تقوم بأدوار تاريخية لأنها طرف مقبول من الكلّ، وهذا ما أشارت إليه هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في مذكراتها "خيارات صعبة"، والتي ركزت فيها على الدور المحوري لجلالة السلطان المعظم في اتفاق إيران النووي مع الدول الغربية، وما تحلى به جلالته من صبر وبصيرة، وقالت في الصفحة 404، "إنّ جميع الأطراف يعدّون السلطان قابوس أحد القادة النزهاء، لتمتعه بعلاقات وثيقة مع كلٍّ من واشنطن ودول الخليج وإيران، فاقترح استضافة محادثات مباشرة وسرية بين الولايات المتحدة وإيران لحل المسألة النووية، بعدما فشلت كلُّ المحاولات السابقة؛ لكن السلطان أعرب عن اعتقاده أنّ ثمة فرصة لديه لتسهيل الحلحلة، فيما السرية ضرورية لمنع المتشديين من كلِّ الجهات من عرقلة المحادثات، حتى قبل انطلاقها".

إنَّ التجربة التي مرت بالمنطقة، ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، وغزو الكويت، والحرب على أفغانستان ثم غزو العراق، وكذلك الأوضاع في سوريا وانتهاءً بالحرب على اليمن، كلُّ ذلك يحتم على القيادات أن تعي أنّ الحروب وقفت عائقاً أمام التنمية، وأنّ ما أنفق في هذه الحروب كان كفيلاً بأن يجعل الدول العربية -خاصة الخليجية- تعيش في مقدمة الركب في العالم، لكن -حسب معطيات الواقع- فإنّ الدروس قد ذهبت سدى، والأمةُ تلدغ من الجحر نفسه مراراً وتكراراً.

ومن مبادئ السياسة العمانية الخارجية أن تتعامل عُمان مع الأمور بما يفرضه الواقع على الأرض؛ فالجغرافيا هي المكوِّن الأساسي للسياسة الخارجية، لذا فحسب المفهوم العماني، لا ينبغي الدخول في صراعات مع دول الجوار أو مع الآخرين، ومن هنا كان الرفض العماني للدخول في الأحلاف، لأنّ في السياسة لا وجود لعدو دائم أو صديق دائم؛ فالمصالحُ وحدها هي التي تحكم السياسة، من هنا كانت العلاقات العمانية مميزة مع كلِّ دول الجوار، وهناك نقطة ملفتة في هذا الشأن، وهي أنّ العلاقات العمانية الإيرانية كانت ممتازة في عهد شاه إيران السابق، فيما أصبحت أكثر من ممتازة بعد الثورة الإيرانية، لأنّ عامل الجغرافيا لا يمكن أن يلغى في قاموس التعامل بين الدول، وما حدث أيضاً مع إيران حدث مع اليمن، إذ استمرت العلاقات العمانية اليمنية في أحسن الحالات رغم تقلب الأحوال في اليمن.

وإذا كانت السنوات الخمس الأولى من حكم جلالة السلطان قابوس المعظم لعُمان كانت صعبة، إذ واجهت الحكومة الكثير من المعضلات، ومنها توتر العلاقات بين عمان و"اليمن الجنوبي" حينها، فإنّ هناك مواقف شبيهة بتلك تمر بها المنطقة الآن -وعمان وسطها-، مع اختلافات حسب تغيّر الظروف، لأنّ هناك الآن من يريد أن تتلقى عمان الإملاءات وأن تكون مجرد تابع، فإن عادوا أحداً فإنّ على عُمان أن تعاديه، وإن صادقوا أحداً فعلى عُمان أن تصادقه؛ وهو مبدأ أقرب من مبدأ بوش الإبن، عندما أعلن أنّ "من ليس معنا فهو ضدنا". ثم هناك تحديات داخلية كثيرة تأتي في مقدمتها التحديات الاقتصادية، والخوف أن يسعى البعض إلى استغلالها، كما أنّ هناك تحديات خارجية، منها أنّ داعش والقاعدة أصبحتا قريبتين من حدود عُمان الجنوبية، وهذا يتطلب اليقظة والانتباه، فما يملكه غيرنا قد لا نملكه نحن، من قوة عسكرية، واقتصادية، وامبراطوريةٍ إعلامية جبارة.

إنَّ كلَّ هذا يطرح سؤالاً مهمًّا هو: ما مدى قدرة استمرار وصمود السياسة العمانية الخارجية، وسط المتغيرات السياسية والاقتصادية حول عُمان؟

على مدى السنوات الماضية نجحت السياسة العمانية في الحفاظ على الخطوط الثابتة للسياسة الخارجية؛ وفي الظروف الحالية فإنّ الخطوط العريضة لهذه السياسة - كما أرى-، تحتاج إلى نصوص مكتوبة، تنظم تلك السياسة خاصة فيما يتعلق بمشاركة عمان في الأحلاف أو مشاركة قوات السلطان المسلحة في أيِّ عمليات خارجية، لأنّ المتغيرات حول عُمان أصبحت كثيرة ومتشعبة، ولا ينبغي التفريط بهذه السياسة، التي أشاد بها الكثيرون، حتى وإن كان هناك من ينظر إلى الأمور بقِصر النظر، كأن يرى أنّ "عمان تغرِّد خارج السرب"، فهو تغريدٌ إيجابيٌ أبعدَ عُمان عن الصراعات الإقليمية، لذا فإنّ نصوصاً واضحة مكتوبة حول تلك السياسة هي ضمان للمستقبل حتى لا تنجرّ عُمان إلى المشاركة في أيِّ تحالفات أو حروب.

لقد حقَّق جلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- الكثير لعُمان وشعبها والمنطقة الخليجية والعربية، وتلك المكتسبات حاضرة بقوة على الأصعدة كافة، خاصة منها التوازن السياسي والاستقرار الأمني، والنزعة لتبني قرارات تنبع من إرادة حرة ومصلحة وطنية؛ وواجب العمانيين -كما يقول عاصم رشوان في كتابه "قابوس.. سلطان أم صاحب رسالة؟"- يقتضي التمسك بتلك المكتسبات، والوقوف صفاً واحداً، مدركين أنّ وحدتهم الوطنية، وسلامهم الاجتماعي، وأمن بلادهم واستقرارها، هي المكاسب الأغلى والأثمن في منطقة تتهددها المطامع والفتن.

تعليق عبر الفيس بوك