وزارة العقل والإرشاد النفسي

علي بن مسعود المعشني

الهيكل الإداري للحكومة يعبر في الغالب عن الحاجات الفعلية والأولويات التنموية لأي دولة، والهيكل التنظيمي لأي وزارة يحمل تفاصيل المهام التنموية المنوطة بها لهذا من الطبيعي أن نجد الاختلاف في المسميات والغرابة فيها أحيانًا قياسًا على ما ألفناه واعتدنا عليه، ولكنّه في النهاية يعبّر عن حاجات الشعوب وأطوار الدول ومراحل تشكل وعي مجتمعاتها وتعاظم حاجاتها التنموية على مختلف الصُعد.

أي قانوني حذق يمكنه قراءة نمو أي مجتمع وعمق وعيه وقيمه وأخلاقه من واقع التطور التشريعي لدولته، حيث تعكس القوانين وتحوي كل تلك المؤشرات وتنطق بها على اعتبار أنّ القوانين من نسيج القيم والموروث والثقافة لأي مجتمع ومن صميم حاجاته لتلمس الرقي والتطور الإيجابي.

لهذا شهد العالم العديد من القوانين والوزارات التي تعبر عن خصوصية كل مجتمع وتحمل نظرته وقيمه وتطلعاته، ولعل إشهار وزارات للتسامح والسعادة والمستقبل بدولة الإمارات العربية الشقيقة مؤخرًا أثار لدى البعض الفضول والتساؤل عن مهامها وأهميتها ومدى الحاجة لها، وأغلب هؤلاء المتسائلون بلا شك لم تتح لهم التجربة والثقافة في الإطلاع على تجارب الآخرين ولا على مدلول الوزارات ومهامها في كل زمان ومكان.

فقد أنشئت وزارة للسعادة الاجتماعية بفنزويلا عام 2013م بقرار من الرئيس الحالي مادورو وأنيط بها تخفيف آثار الفقر ومكافحته في المجتمع الفنزويلي. كما أنشأت اليمن وزارة لـ"شؤون القبائل" عام 1962م وألغاها الرئيس إبراهيم الحمدي واستبدلها بمصلحة الشؤون المحلية في وزارة الداخلية.

وحفاظًا على الموروث الهندي وتقاليد العلاج التي اشتهرت بها الهند فقد أنشئت وزارة لليوجا وأنيطت بأحد المتخصصين وأريد منها الحفاظ على هذا العلم وترويجه ونشره، إضافة إلى علم الإيروفيد العلاجي وهو ما يُعرف بعلم الحياة في الهند.

كما استحدثت كريسون رئيسة وزراء فرنسا في عام 1995م وزارة باسم وزارة الحوار بين الأجيال مهمتها تقليص الفجوة الثقافية والفكرية وإزالة الجفوة بين الأجيال ونقل التجارب والخبرات بينها والمزج بين حكمة الكبار وحيوية الصغار بسلاسة ويسر ودون صدام أو تعثر حفاظًا على تراكم التجربة المجتمعية ونسيج الدولة وإثرائهما.

كما توجد في إيطاليا وزارة تُعنى بتبسيط القوانين النافذة وتمتلك القوة الدستورية لبسطها دون تأخير وبما يحفظ المصلحة العامة ويحققها على الوجه الأتم والأكمل.

وتوجد في إيران وزارة خاصة بالمعلومات التي تعني الجهاز الإداري للدولة وتسهم في رفع وتيرة التنمية، وتوجد في الصين وزارة خاصة للحبوب بقصد الحفاظ على معدلات الزراعة وأنواع المحاصيل التي تعزز من عجلة الصادرات والاقتصاد الزراعي، وتؤمن الأمن الغذائي بيسر، وتجعل من أداء ملايين الفلاحين مميزًا وميسورًا.

وحين نعود إلى الأزمنة السحيقة سنجد وزارات تعبر عن تلك الأزمنة وحاجات قاطنيها وعلها تبدو لنا طريفة وغريبة أكثر من الوزارات المعاصرة اليوم.

وحين نعود بعد هذا الاستهلال إلى سلطنتنا الحبيبة سنجد أننا بحاجة ماسة اليوم إلى جهاز إداري جديد للدولة يلبي التطلعات ويواكب العصر أكثر من الهيكل الحالي والذي رافقنا منذ ولوجنا لعصر النهضة المباركة ولم يشهد سوى رتوش من التغييرات عبر أطواره المختلفة والتي أصبحت مع الأيام من مظاهر الترهل وتنازع الاختصاصات بين الوحدات الحكومية بجلاء شديد.

لا نبالغ ولا نشهر ولا نقدح حين نوصف المشهد العام للإدارة والتشريعات والإجراءات في سلطنتنا الحبيبة بأنّها تجاوزها الزمن في كثير من المواضعوأصبحت من معطلات التنمية وكابحة لمطامح المواطنين، حيث غاب دورها التنظيمي والتخطيطي وحمايتها لمصالح المواطنين وقبل كل ذلك خدمتها للمصلحة العامة وما تخبطنا الاقتصادي اليوم سوى نتيجة حتمية لتلك الشواهد مجتمعة.

الحقيقة أنّ أغلب الإجراءات اليوم في الوحدات الحكومية تشبعت بالبيروقراطية إلى حد النخاع، وتجنّبت الكثير من المنطق والعقل في شروطها وطلباتها ووقتها حتى جعلت من الخدمات الحكومية خدمات طاردة وبكل المقاييس في زمن أصبحت فيه الخدمة سلعة تحفها كل مظاهر الجذب والترويج لاستقطاب المنتفعين بها وتدوير عجلة الاقتصاد الوطني والمنفعة العامة، والأدهي والأمر أنّ هذه المنظومة أنتجت جحافل من الموظفين الذين يرفعون شعارا لا يمكن تحقيق أكثر مما كان، حيث يعتقد هؤلاء - بحكم التناسل البيروقراطي - أنّ جل جهودهم البيروقراطية والروتينية القاتلة هي لتحقيق التنمية والمصلحة العامة على الوجه الأكمل وصون مكتسبات الدولة وثرواتها، وأنّ المواطن ما زال قاصرًا عن فهم هذه الجهود والإجراءات.

أغلب تشريعاتنا اليوم تحتاج إلى وزارة للعقل وأغلب الموظفين في القطاعات الخدمية بحاجة حقيقية إلى إرشاد نفسي عميق ليفرقوا بين الروتين والبيروقراطية والإنتاجية والجودة ومواكبة العالم من حولنا رأفة بالوطن والمواطن.

يجب أن يفهم المشرع والموظف معًا - وبلغة المال العارية - أنّ كل خدمة هي في الغالب تجلب منفعة مادية ومعنويّة للوطن والمواطن وأنّ الروتين والبيروقراطيّة يحرمانهما من مئات الملايين من الريالات سنويًا بخلاف الاستقرار النفسي والوظيفي للمواطن بفعل القوانين والإجراءات التي لم تعد صالحة لزماننا ولم تعد تلبي حتى الحد المعقول لطموحاتنا.

يجب أن يفهم هؤلاء أنّ الخدمة سلعة مدفوعة الثمن وليست مِنّة، وأنّ الوقت كالمال عند الباحث عن تلك الخدمة.

لم يعد من المعقول أو المقبول اليوم أن يترقب المواطن أسابيع ليرى مفتش يجيز له مشروعه، أو لأيام ليتكرم عليه موظف بتوقيع أو بوصل استلام أو ختم أو لتعبئة استمارة أغلب خاناتها قد تجاوزها الزمن في وقت نتحدث فيه عن حكومة إلكترونية وتبسيط الإجراءات. كما لم يعد من المعقول أو المقبول اليوم أن نروّج للاستثمار في وقت نمنح فيه المستثمر طرف خيط مشروع ونطلب منه إنهاء بقيّة الإجراءات لشهور ثم ليكتشف حظه ونصيبه من المشروع إن أجيز أم لم يحظى بموافقة جهة ما ليطوى في الأدراج ويذهب جهد المستثمر ووقته وآماله أدراج الرياح.

كم نحن بحاجة إلى وزارة للعقل والإرشاد النفسي لنقف على حقيقة إدارتنا وإجراءاتنا وتشريعاتنا والممكنات التي أهدرناها وجحافل البيروقراطيين بيننا لنقرر بعد ذلك هل نطمح للتطور والنمو والتنمية الشاملة أم سنراوح مكاننا نجتر الماضي ونقدسه وننسى الحاضر المستقبل معًأ !!؟.
قبل اللقاء: " إنّ مشكلتك ليست سنواتك التي ضاعت، بل سنواتك القادمة التي ستضيع حتمًا إذا واجهت الدنيا بنفس العقلية ".(د. مصطفى محمود).

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك