ترانيم

عنقاء الروح

 

 

غربة !

روحٌ

لا تعرف نفسها

تثرثر بينها وبين ذاتها

كما الطريد ينادي أوطانه

فتتوارى هاربة

***

لا فائدة

نقطة على السطر خالدة

تفتش الأقدار وتسهر الليل في قلبي

شاردة شاردة

***

روحٌ تمضي جامدة

وتعود من ترحالها مجهدة

تهدي أيامي الرتابة

وأحلامي صحوتها البائدة

***

من أنا؟ من أنت؟ ما هي الذات وما السبيل إلى معرفتها؟ أسئلة تعمّق فيها الفلاسفة منذ قديم الأزل فتبنى سقراط عبارة "أيّهذا الإنسان أعرف نفسك بنفسك؟!" المكتوبة على جدران معبد دلفي، وكتب ابن سينا عنها في كتب عديدة منها كتاب الإشارات والتنبيهات وكتاب الشفاء وحثّ على العودة إلى النفس وتأملها، وقد أمرنا ديننا الحنيف في مواضع عدّة على التفكر في أنفسنا، واعتبر بعض الفلاسفة معرفة الذات أهم واجبات الإنسان المعرفية، فقال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت: "ما من معرفة إلا وتبدأ بوعي الإنسان بنفسه"، وقال ابن سينا: "من رام وصف شيء من الأشياء قبل أن يتقدم فيثبت أولا أنيته فهو معدود عند الحكماء ممن زاغ عن محجة الإيضاح"، ورغم أن الشعور بالذات هو شعور فطري، إلا أن إدراك هذا الشعور يحتاج إلى تجرّد النفس عن البدن والحواس؛ لأنها عادة ما تنشغل بها عن نفسها لذلك فقد طرح ابن سينا تجربة "الرجل المعلق في الهواء/الطائر"، الذي يتجرَّد عن كل الأشياء الخارجية، ومن اعتياد النفس بالحواس وانغماسها في البدن ليدرك ذاته فقال في كتاب التعليقات: "نفس الإنسان هي في الحياة البدنية ممنوة "ممنوحة" بالبدن ودواعيه فلا يتحقق إلا ما رآه عيانا أو أدركه بحواسه، ويعتقد أن ما لا يدركه بها لا حقيقة له ولا وجود لشدة إلف نفسه بحواسه وذهولها عما سوى ذلك وانغماسها في البدن وقواه، وكل ذاك لأنها غير متحققة بذاتها بل مأخوذة عن ذاتها. فإذا فارقت وتحققت ذاتها أدركت حينئذ ما يراه الإنسان باطلا لا حقيقة له، وأدركت الموجودات بذاتها لا بآلة بدنية، فتعلم أن الآلات كانت عائقة له عن خاص فعلها".

وفي الحقيقة، يمكنني المتابعة في سرد ما كتبه الأولون وحتى الفلاسفة المحدثين عن معرفة الذات وارتباطها الحتمي بغاية وجود الإنسان على هذه الأرض، ولكن ما يعنيني هنا هو طرح تساؤلات هي أعقد وأعمق من أن تُناقش في عمود وتحتاج إلى دراسات متخصصة بكل تأكيد، لكنني أطرحها لفتح نافذة تأمل نحن في أمس الحاجة إليها، لطالما كانت معرفة الذات رحلة تحتاج إلى الكثير من الشفافية والكثير من الصمت والسكون كي يتمكن الإنسان من سماع صوت أعماقه والإسبار في غورها، فأين نحن اليوم من ذلك؟

وَسْط عالم ازدواجي متناقض نعيش في يومياته مشاهد الموت من جهة وقشور البذخ المفرط من جهة أخرى حيث الأزياء والسيارات والمجوهرات والبرامج التليفزيونية المشبعة بالسطحية والعالم الوهمي المنعزل الذي حاصرتنا به شبكات التواصل الاجتماعي، في عالم اعتدنا فيه رؤية المجاعات والجثث والدماء وألفت مسامعنا أصوات العويل والصراخ والاستغاثة فأصبحنا ننتقل بعدها مباشرة وبكل أريحية للانغماس في متابعة برنامج هواة غنائي أو التبلد أمام شاشات الحاسوب أو الهاتف النقال وسرد الدعابات والتعليق عليها في مواقع التواصل الاجتماعي، في عالم أصبح الخبر الأهم فيه طرح منتج ما في الأسواق والتسابق على الحصول عليه، بعدما تحوَّلت حياتنا في أقل توصيف لشيزوفرينيا تعبث بعمليات التفكير لدينا وتضعف استجاباتنا الانفعالية.

تُرى: ما تأثير ذلك كله على معرفتنا بذاتنا؟ ما تأثير ذلك على إدراكنا العام والوجداني الخاص؟ مشاعر مبهمة من الغربة والوحشة لدى البعض؟ حالة من الغفلة والسير خلف القطيع لدى البعض الآخر؟ حالات متزايدة من الاكتئاب والقلق؟ الانفجار الذي يظهر على شكل سلوكيات عدوانية والجنوح إلى العنف؟

واقع مضطرب يتجاذبنا بين أقصى أقطاب التنافر، فهل من سبيل إلى معرفة الذات، هل ستعود الطيور إلى أعشاشها يوما أم أن الغربة قد استوطنت الروح ولا مفر؟!

أيتها الطيور التي خاصمت أعشاشها

وتمادت بالرحيل وبالذهولْ

حطي على القلب سلاما

وأوقدي روح الذبولْ

رائحة الموت تتسلل مع صباحاتنا

تخنق أنفاس الخزامى

وتعيثُ في طيبنا وأملنا والحلم البتولْ

فافتحي باحة للسماح

وغذي جداولنا باليقين

لوّني جدب السهولْ

******

أيتها الطيور

يا جناح العبور

وأفق البقاءْ

أنشدي لحنا في ألق الصباح

واكتبي شارة للسناءْ

قصيدة للخلود

وصية للفصولْ

******

أيتها الطيور التي أيقظت حس نافذتي

وزلزلت صمت اليوم وغصة البارحة

دثريني.. دثريني

فأنا أرعش من خوف ومن تعب

وبين أعماقي تتكالب الأشجانْ

كوني شالا

كوني دميتي

زورقا ورقيا.. ميناءً

وحضنا تتمايل الأطياب فيه

والأمنيات والحقولْ

 

 

anqaa_alrooh@yahoo.co.uk

تعليق عبر الفيس بوك