الحضارة والمدنية والتاريخ

علي بن مسعود المعشني

الحضارة تعني: وجهة النظر في الحياة أو يعرفها البعض بأنها: مجموعة مفاهيم عن الحياة مثل مفاهيم الزواج والطلاق والبيع والشراء وكافة المعاملات المكتسبة من العادات والتقاليد في الأزمان الغابرة، فهي ليست لها علاقة بالعلوم الطبيعية كالطب والهندسة والرياضيات وغيرها من العلوم الأخرى.

أما المدنية فقد عُرفت: على أنها الأشكال المادية المحسوسة، مثل القطار والطائرة والحاسوب والسيارات وغيرهم كثير، فالمدنية ليست خاصة بأمة معينة، فاليهودي والمسلم والنصراني وغيرهم كلهم يحتاجون إلى المخترعات والعلوم الطبيعية، ولم يحرم الإسلام أخذ هذه العلوم من أي مصدر كان لأنّ العلوم صنعت بمجهود كل البشر من السابقين والمحدثين من العرب وغير العرب.

"والحضارة في اللغة وكما ورد في "لسان العرب": "الإقامة في الحَضَر.. والحَضَر والحَضْرة والحاضرة: خلاف البادية، وهي المدن والقرى والريف". إذن، حين تُذكر الحضارة في اللغة فإنّه يقصد بها ما هو عكس البداوة، أي سكنى المدن والقرى.

أوّل من توسّع في الكلام عن الحضارة والتفريق بينها وبين البداوة هو "عبد الرحمن بن خلدون"(ت 808 هـ)، الّذي يرى أنّ الناس حين تخطَّوا في كسبهم للمعاش ما هو ضروري "وحصل لهم ما فوق الحاجة من الغنى والرفه، دعاهم ذلك إلى السكون والدعة وتعاونوا في الزائد على الضرورة واستكثروا من الأقوات والملابس والتأنُّق فيها وتوسعة البيوت واختطاط المدن والأمصار للتحضُّر. ثمّ تزيد حالة الرفه والدعة فتجيء عوائد الترف البالغة مبالغها في التأنّق في علاج القوت واستجادة المطابخ وانتقاء الملابس الفاخرة في أنواعها من الحرير والديباج وغير ذلك ومعالاة البيوت والصروح وإحكام وضعها في تنجيدها والانتهاء في الصنائع في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى غايتها فيتّخذون القصور والمنازل ويُجرون فيها المياه ويعالون في صرحها ويبالغون في تنجيدها ويختلفون من استجادة ما يتّخذونه لمعاشهم من ملبوس أو فراش أو آنية أو ماعون. وهؤلاء هم الحضر، ومعناه الحاضرون أهل الأمصار والبلدان".

الفـرق بين الحضــارة والتاريخ :

من الثابت أنّ الخط الفاصل بين هذين النوعين من الدراسات دقيق إلى حد اختلاط موضوع الحضارة بموضوع التاريخ. لكن هناك اختلاف واضح بين الموضوعين:

فدراسة التاريخ كانت أسبق زمنيًا عن دراسة الحضارة كعلم مستقل قائم بذاته فكان يتناول الحضارة بصورة عرضية إلى جانب التاريخ السياسي والعسكري طالما كان موضوعه هو دراسة الإنسان في المكان عبر الزمان، كما يتناول موضوعات علوم أخرى كالاجتماع والأنثروبولوجي (علم الإنسان) والآثار وغيرها من العلوم.

وهناك بون شاسع بين الحضارات الأصلية والحضارات المُقلدة، لخصها المفكر علي شريعتي في الآتي: "إنّ قضية المثقف الأصيل والمثقف المقلد ليست قضية الشرق والغرب في القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر والقرن العشرين فحسب، فإن التاريخ يعيد نفسه، فالتاريخ مليء بالبساتين الكاذبة والأصيلة، مليء بالحضارات الأصيلة والحضارات المقلدة التي تعتمد على الاستيراد. ولنعد إلى تاريخنا، كانت لدينا حضارتان: إحداهما الحضارة الرومانية أو البيزنطية وهي حضارة غربية ومركزها تركيا الحالية وجزء من اليونان، وكانت بيزنطة هذه أو الإمبراطورية الرومانية الشرقية، مركز الحضارة المسيحية الغربية ووريثة الحضارة الرومانية واليونانية السابقة عليها، أمّا الحضارة الأخرى فهي حضارتنا، حضارة إيران القديمة قبل الإسلام والمعروفة بالحضارة الأكمينية والأشكانية والساسانية، وهي حضارة وطنية نابعة من نفس هذه البيئة، وهي ملك لنا وتخصنا. ومن هنا فنحن الإيرانيين كنا قبل الإسلام أصحاب حضارة، وكنا صانعي حضارة وصانعي ثقافة، وكان الرومان سواء في الإمبراطورية الرومانية الشرقيّة وسواء في الإمبراطورية الغربية أصحاب تاريخ وحضارة وثقافة متقدمة وأصيلة وحقيقية، كانوا أناسًا متحضرين، وإلى جوارهما أي بين إيران وبيزنطة المتحضرتين، وجد نوعان من المجتمعات نعرفهما، بالقرب من الحضارة الرومانية الشرقية وجد العرب الغساسنة في الشام (في تلك العصور كانت تركيا الحالية تُسمى بالروم الشرقية وكانت سورية تُسمى بالشام)، كان الغساسنة من العرب الذين يعيشون في الشام، ولما كانوا جيرانًا للروم المتحضرين، فقد كانوا يقلدون الحضارة الرومانية ويتّخذون أشكال الحياة الرومانية المتحضرة، وبالقرب من الحضارة الإيرانية القديمة كان عرب الحيرة في العراق (كان العراق يُسمى في تلك العصور بلاد ما بين النهرين، وكانت هي الأخرى ذات حضارة قديمة، لكن في العصر السابق للإسلام مباشرة أي عصر الساسانيين، لم يكن هناك أدنى أثر للحضارة القديمة التي كانت فيها أي البابلية والسومرية )، ولأن عرب الحيرة كانوا جيران إيران المتحضرة في العهد الساساني كما كانوا على صلة بهم، كانوا بدورهم يقلدون أنماط الحياة الساسانية المتحضرة.

ومن هنا نرى نمطين من الحياة بين العرب الذين كانوا يعيشون بين الحضارتين الشرقية أي الإيرانية والغربية أي الرومانية إحداهما: حياة أهل الحيرة الذين يعيشون كالإيرانيين، والأخرى حياة الغساسنة الذين يعيشون كالرومان، وكان ملك الغساسنة وأشرافه وأمراؤه وشيوخ قبائله يلبسون مثل إمبراطور الرومان ويشربون مثله ويجلسون للاحتفالات مثله، ويجمعون حولهم الشعراء ينشدونهم المدائح كما كان الأمبراطور الروماني يفعل، كانوا مثله يعدون اللقاءات العامة ذات المراسم، وكانوا يتحركون في المجتمع مثله، فهم في ملابسهم ومراسم الحياة عندهم، أشباه قيصر الروم. أمّا العرب من جيران إيران أي أهل الحيرة الذين كانوا يعيشون في ما بين النهرين، فقد كان ملوكهم من المناذرة مثل النعمان بن المنذر والمنذر بن النعمان ونحن نعرفهما يقلدون تمامًا في عهد بهرام غور وأنوشيروان وأمثالهما ملوك الساسانيين تقليدًا تامًا، فملوك الساسانيين يشيدون القصور، وأمير الحيرة هو الآخر يملك القصور، وكانت قصور أمير الحيرة وهي تقليد لقصور الملك الساساني أكثر فخامة وأسطورية من قصور ملوك الساسانيين أنفسهم، وهذا أشبه بما نراه من أنّ المقلدين يبالغون عن الأصول التي أخذوا عنها، هذه قاعدة عامة، لماذا؟ هو نوع من الصراع النفسي، عندما يحس أحدهم بمركب نقص تجاه آخر، فإذا رد الفعل الطبيعي عنده أن يعوض هذا النقص بأن يقلده، ويصل بنفسه إلى مستواه، ومن هنا فلا بد أن يبالغ حتى لا يبقى في نفسه أدنى هاجس بالتأخر، وبالإفراط في هذا الأمر وحده يستطيع أن يثق في أنه بلغ مستواه ويطمئن إلى ذلك، ولا مفر من أن تفضي عقدة التأخر إلى الإفراط في التقدمية وإظهار التقدم".

كان لابد لي من تأصيل مفاهيم الحضارة والمدنية والتاريخ تأصيلًا علميًا مع ضرب الأمثال لما نالها من خلط وتسطيح من قبل الخطاب الإعلامي غير الواعي وتفشي الثقافة الشفهية والتي جنبت الكثير القراءة والبحث ونعمة التساؤل والفضول المعرفي، ولغياب التعليم الموسوعي وحضور التلقيني منه والتخصصي بشكل كبير.

فقد اختلطت الكثير من المفاهيم اليوم وتداخلت المصطلحات وبالنتيجة تمّ حرف الأولويات والمهام في حياة الشعوب حتى أصبحت المدنية وموادها النفعية في فهم الكثيرين بديلًا عن الحضارة بل وأهم منها في وعيهم، ولايعلم هؤلاء أنّ اكتشاف الإنسان لأواني الطهي الفخارية وما نتج عنها من تراكم ابتكاري لحياة الإنسان توازي جميع مخترعات البشر في القرون المتأخرة من تقنية ووسائل نقل وإتصالات وينسحب الأمر كذلك على وسائل الري والزراعة والمعمار والتي شكلت للإنسان في السابق واللاحق الفيصل بين الحياة والموت، بل إنّ ابتكار الإنسان للسكين يوازي عجائب الدنيا السبع.

فالعبرة هنا تكمن في الأمم السابقة والتي ابتكرت تلك الوسائل والأدوات والتي بدورها ألهمت عقول الخَلَف للابتكار والتقليد والتطوير لتحظى البشرية بما نراه اليوم من مظاهر المدنية والترف والتطور التقني الهائل؛ وإن كان لنا فيه جملة من الملاحظات حين تخطى القيم والأخلاق وتوشّح بالجشع والانتهازيّة والنفعيّة العارية في أزمنة وقطاعات بعينها.

قبل اللقاء: من يعيش في الماضي ويفخر به ويقدسه فسيفقد بلا شك الحاضر والمستقبل معًا وهو بكامل قواه ووعيه. وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك