أَصلحوا رجال الدين من أمتنا!

سلطان الخروصي

sultankamis@gmail.com

ذات مساء وبينما كنت أتصفح بعض المجلات المعنية بالتوعية والتوجيه نحو تجديد الخطاب السياسي والديني بالوطن العربي والإسلامي، استرقت بعضا من الوقت لأرسم (كوخا) عربيا وإسلاميا متماسكا مطليا بجمال العلم والمعرفة، ومرصَّعا بألماس الإبداع والابتكار، تعلوه سارية يستنير منها الناظرون بالازدهار الاقتصادي، والمهارة السياسية الدقيقة، والعدالة الاجتماعية السويَّة، والتعليم المُجوَّد الذي لا يخرج إلا عقولا يستظلُ بها الوطن نحو كل إنتاج؛ لتكون عروبتنا عالمية تزاحم الكبار، لكن وباختصار شديد ما كانت تلك سوى أضغاث أحلام وما العِالِمون بالمدَّنية والحضارة بتفسير الأحلام بعالِمين.

حينها بدأت أضرب أخماساً بأسداس حول مكمَنِ مشكلتنا نحو استرخاص استباحة دماء بعضنا البعض؟ وما هي القوة الجامحة التي تُحرِّكُ أحزابا وتكتُلات بمختلف توجهاتها الفكرية نحو تمزيق أوصال أوطانها وخيراتها في أتون حروب خاسرة يجرّهم إليها سماسرة الموت، فيجعلونهم فئران تجارب لما وصلت إليه الترسانة العسكرية؟ أي قُدسيّة تستبيح هدر طاقات العلماء بالاغتيالات والتهجير باسم المذهب أو العِرق أو غيرها من تُرَّهات الجهل كما هو حال العراق الذي وحسب تقرير الأمم المتحدة 62% من علمائه يحملون شهادات الدكتوراه ثلثهم متخصصون في العلوم والطب، حيث تم اغتيال واختطاف أغلبهم وتهجير عدد كبير بعد الاحتلال، أضف إلى أنّ وزارة التعليم العالي العراقية أعلنت عن اغتيال 182 أستاذا جامعيًا بمختلف جامعات العراق ببغداد والمنصورة والرمادي وغيرها..! ناهيك عمَّا يحصل في سوريا واليمن والسودان وغيرها من بقاع العالم العربي والإسلامي، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نحن بالفعل نفتقد للحنكة السياسية؟ هل نعيش عوزا وتخلّفا اقتصاديا؟ هل نفتقد للعدالة الاجتماعية؟ هل نعيش أزمة انعدام التعليم الحُر والكفء؟ وهل خطابنا الديني والسياسي والاجتماعي فيما بيننا والعالم الخارجي يوصف بالتصحر حول مفرداته ومفاهيمه وقيمه الإنسانية النبيلة؟

رُبما تجتمع الأسباب الآنفة الذكر وغيرها الكثير لتُشكّل لنا صورة ضبابية حول المربع الصحيح الذي نقف عليه، لكننا بحاجة ماسَّة للوقوف مليِّاً حول الخطابات الدينية المتواترة على الساحة الوطنية والإقليمية والعالمية، إذ لا ريب أننا نعيش أزمة ثقة العالم الغربي بالمسلمين والذين بدورهم أسدلوا سوء تصرفاتهم على رسالة الدين الحنيف وهو بريء مما يفعله البعض، براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فأي جبروت وغطرسة يتسم بها مسلك من يدعي خشية الله ورجاء ثوابه حينما يستبيح دم من حرَّم الله سفكه؟! فهل يعي رجالات الدين في عالمنا العربي والإسلامي أن لهم مكانة سامية دون السياسيين الذين في أغلب أحوالهم يتقلبون مع تقلب المواقف وتسارع الأحداث؟ وهل تعي صنابير الفتاوى أن (كوبوناتهم) التي يبيعوها بثمن بخس تقطع همزة الوصل مع علماء الأمة الشرفاء والذين هم ورثة الأنبياء؟ كيف تُبدع حواء في الحقل التربوي والاجتماعي والثقافي والسياسي وهي مُكبلة بأصفاد التحريم والتجريم غير المؤصلة بالنصوص العقيلة والنقلية البيِّنة؟ وكيف يستقيم حال شباب المجتمع في ظل خطابات التكفير والتخوين والإعدامات واستباحة الأعراض والتحريض نحو الإفساد بهلاك الحرث والنسل تحت شماعة الذَّود عن حياض الدين بالجهاد دون استيعاب لمدلولاته السماوية السامية؟ جميعنا لا يتمنى إطلاقا أن تُنتهك حُرمات الأديان، ولا أن يُزجّ بالأوطان والإنسان في مستنقعات نتِنة، لكن هذا الدين يُسر، ومبني على العقل والمنطق والبساطة "ولا يُشاد الدين أحد إلا غلبه".

أتساءل كيف يسترخص بعض الدعاة علماء الأمة وأهل الفُتيا ليُنصِّبوا من أنفسهم عمالقة الفتاوى وتغليفها بابتسامات صفراء تحمل بين ثناياها خراب الدين والدنيا؟ يذكر بعض المُحدِّثين وأصحابُ السّير أن ابن ليلى - أحد التابعين- يروي أنّه أدرك مائة وعشرين صحابيا كانوا يتورَّعون عن الفتوى فيلقيها على أخيه، ويقول سفيان ابن عيينة أحد الفقهاء الكبار في الأمة: "أعلمُ الناس بالفتيا أسكتُهم عنها، وأجهلهم بها أنطقهم فيها"، ويروى أنّ رجلا دخل على الفقيه ربيعة بن أبي عبد الرحمن فرآه يبكي، فسأل عن بكائه، فقال: استُفتي من لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، ثم قال: ولبعض من يفتي هاهنا أحقّ بالسجن من السراق".

الأمة في هذه الظرفية الوهنة بأمس الحاجة لعلمائها العاقلين الذين يدركون أيَّما إدراك بمصالح البلاد والعباد، كما هي بحاجة إلى أن يتريث بعض الدُعاة فيخلعوا قناع الشهرة والتسلق على أعناق البسطاء من الناس، وليتذكروا أنهم لبنة مهمة في بناء المَدنيَّة والازدهار، وأن التشظّي في المواقف، والتصلّب نحو تقبل الآخر، وسَمل الأعين، وصمّ الآذان من طين وأخرى من عجين ماهي إلا وبال عظيم تتجرَّعه الأمة، وستخلق تجاهها لعنة الأجيال القادمة، فمن الضرورة بمكان أن يلمَّ الشَّمل، وتستكين الأنفس، وتترك الفتيا للعلماء والمجتهدين من الأمة.

تعليق عبر الفيس بوك