أنا أتهم!

أسماء القطيبيَّة

في العام 1894، اتهمت الحكومة الفرنسية ضابطَ مدفعية يُدعى ألفريد درايفوس بتسريب ملفات سرية للمركز العسكري الألماني بباريس، وعلى أثر ذلك تمَّ الحكم عليه بالنفي إلى جزيرة الشيطان بـ"غويانا الفرنسية" مع تجريده من رتبته العسكرية. وخلال سنوات تلت هذا الحكم قام عدة أشخاص من المقتنعين ببراءة درايفوس بمحاولات لإعادة فتح القضية وبيان زيف الاتهامات التي وجهت إليه، ولكن باءت جميع تلك المحاولات بالفشل. وبعد خمس سنوات من إصدار الحكم قام الكاتب والروائي إميل زولا بكتابة رسالة علنية نشرت في الصحف موجهة إلى رئيس فرنسا انذاك فيليكس فور عنوانها "أنا أتهم"، اتهم فيها قيادات كبيرة في الدولة كوزير الدفاع، ورئيس أركان الحرب بالتواطؤ في الحكم الصادر ضد درايفوس، وطلب فيها من الرئيس فتح تحقيق جديد في القضية. وذكر في الرسالة أنه يعلم تماما أنه قد يُعاقب حسب قانون حرية الصحافة والاعلام المعمول به لنشره هذه الرسالة العلنية، ولكنه برر الأمر بقوله: "إن العمل الذي أقوم به هنا ما هو إلا وسيلة ثورية لتسريع إعلان العدالة وتفجير الحقيقة، ولا يدفعني إلى ذلك إلا رغبة واحدة هي إظهار الحقيقة باسم الإنسانية". أحدثت رسالة زولا بعد نشرها ضجة كبيرة في فرنسا، تسببت في الضغط على الحكومة من اجل تطبيق العدالة، وقد تم ذلك فعلا، حيث تمت تبرئة الضابط درايفوس بعد عدة أشهر من نشر الرسالة، وإعادة الاعتبار له.

وتعدُّ قضية درايفوس واحدة من أكثر القضايا التي أثارت الرأي العام، ليس لكونها تتعلق بفساد في المنظومة العسكرية في الحكومة الفرنسية فحسب، بل لأنها تحولت من أروقة المحاكم إلى ورق الصحف على يد أحد المثقفين البارزين في الوسط الثقافي الفرنسي ألا وهو إميل زولا. وقد أثارت رسالة "أنا أتهم" التي نشرها الكاتب في الصحف تساؤلات حول علاقة المثقف بالسلطة وحدود تعامله معها. ففي حين عد البعض رسالة زولا تدخلا وتشهيرا لا داعي له، أيد آخرون ما قام به زولا، كون الطرق المعتادة للوصول للحقيقة لم تجدِ أولا، وثانيا لأن هدف المثقف الحقيقي -في نظر من أيَّد فعل زولا- هو استخدام قلمه وفكره في إحقاق الحق، والإصلاح سواء كان سياسيا أو مجتمعيا أو فكريا. وهذا القول يتفق مع رأي العديد من المنظرين الذين يعدون الثقافة بحثا عن الحقيقة يتحرك في خطين متوازيين احدهما فكري يكتسب من المعرفة وإعمال العقل والتنظير في المجالات المختلفة، وآخر عملي من خلال ممارسات تدل على استيعاب المفاهيم والقناعات والتحرك بها لتحقيق تغيير ملموس.

... إنَّ رسالة زولا إلى الرئيس الفرنسي لم تكن تحمل ذلك الخطاب العاطفي المتملق، كما لم تكن رسالة استجداء يلتمس فيها العفو والغفران، وإنما كانت رسالة منطقية من أحد أفراد الشعب الذين لا تربطهم مصالح مع أي من أطراف القضية، مدعومة بأدلة، يطلب فيها تطبيق العدالة دون زيف وتزوير. وهي بذلك نموذج للسلطة الجديدة التي تقف بجانب السلطة السياسية وتعارضها حين يستدعي ذلك. فالمثقف الحقيقي هو الذي يتحيز للحق حيثما يتبين له ويسعى في إظهاره، بأي طريقة يجد أنها قد تحقق الغاية المنشودة. وهو من يطبق المبادئ التي ينادي بها ليكون مثالا للرجل الصادق. ولهذا السبب يعد زولا اليوم أيقونة للمثقف الذي تفخر به المجتمعات الديمقراطية، ولأجله تقام التماثيل والنصب.

بعد نشره رسالة "أنا أتهم"، تمَّ تطبيق عقوبة التشهير على الكاتب زولا حسب قانون حرية الصحافة والإعلام؛ بحيث لم تشفع له شهرته الواسعة، ولا مساهماته في الوسط الثقافي الفرنسي، في نهاية تدلل على أن حرية التعبير لا تتوفر بثمن بخس، وأن الصدام مع السلطة -خاصة الديكتاتورية منها- في حال حدوثه -كما حصل في قضية درايفوس- يستوجب جرأة وشجاعة كبيرين لا يملكهما إلا من نذر ثقافته من أجل غايات أسمى من الرغبات الشخصية، والمطامع السياسية.

asmaalqutibi@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك