التعليم يصنع المجتمع

حميد بن مسلم السعيدي

بداية النهضة العُمانية كانت في السبعينات من القرن الماضي، وحينها كان المجتمع يعيش مرحلة تسودها الأُمية وانتشار الجهل إلا لدى فئة قليلة ممن حصلت على التعليم من المدارس القرآنية أو التي حصلت على التعليم خارج السلطنة؛ جاء عهد النهضة ليفتح أبواباً وآفاقاً جديدة لتُحدث نقلة كبيرة في المجتمع، حيث ركز جل الاهتمام السامي من لدن جلالة السلطان قابوس بن سعيد -حفظه الله- على بناء الإنسان العُماني وتوفير احتياجاته الأساسية ومنها التعليم، وقال كلمته الخالدة "سنُعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر"، واستطاع التعليم في تلك الفترة أن ينتشل المُجتمع من تلك الحالة إلى مرحلة جديدة فانتشر التعليم وخلق مجتمع على مستوى عالٍ من الثقافة والتطور بما يتلاءم مع العصر في تلك الفترة، واليوم العالم يتغيّر كثيراً وأصبح يسبقنا بعقود من الزمن، ونحن بحاجة إلى أن نكون جزءًا منه، خاصة مع الكثير من التغيرات التي بدأت تحدث للمجتمع نتيجة لعوامل عدة ومنها العولمة والحداثة والتواصل العالمي الذي أصبح مفتوحًا، مما أثر كثيرًا على مضامين المواطنة، والهوية الوطنية، وعلى ثقافة المجتمع وقيمه ومبادئه واتجاهاته، وأصبحنا مجتمعاً استهلاكياً دون أن يكون هناك أيّ إنتاج يسهم في التقليل من الاعتماد على الآخرين، وهنا تتمثل إحدى بوادر الضعف والسقوط، إلا أنّنا نمتلك كل المُقومات التي تجعلنا قادرين على العودة من جديد لنصبح جزءًا مؤثرًا في هذا العالم فنحن نمتلك القوة البشرية القادرة على التغيير نحو الأفضل، ونمتلك إرثاً حضارياً يدل على أننا قادرون على العمل من أجل هذا الوطن، ولكن المجتمع بحاجة إلى أداة التغير وهي تكمن في التعليم، يقول "لي كوان يو" مؤسس سنغافورة المعاصرة "التعليم هو أحد الدعائم الرئيسية لاقتصاد أيّ دولة"، فهذا الرجل عندما أراد أن ينتشل المجتمع من الجهل لجأ إلى التعليم لتتحول سنغافورة من دولة متأخرة إلى مصاف الدول المتقدمة لأنّه اهتم بالتعليم، فالتعليم هو من يصنع المجتمع الذي ترغب به، ونحن اليوم بحاجة إلى تعليم يسعى إلى خلق مجتمع يتميز بعدة أنماط حديثة وهي (المواطنة المنتجة، المجتمع المبتكر، الحداثة والتقانة).

والمواطنة المُنتجة تمثل إحدى الركائز الرئيسة في فكر المواطنة، وتعتبر من الأنماط الحديثة التي تهتم بدرجة كبيرة بمدى إنتاجية المواطن وقدرته على خدمة الوطن، وهذه الإنتاجية تربط بمدى ما يُقدمه من منتج فكري أو عملي لإنجاز العمل وفقاً لمعايير الجودة العالية، التي تنطلق من مبادئ الإخلاص والأمانة في العمل، ولكن عندما نتعمق كثيرًا بالواقع نجد أنّ هناك فاقدا كثيرا في الإنتاج العملي للمواطن، ولتغير هذه التوجهات فالتعليم وحده القادر على إعادة بناء توجهات التفكير في بناء المواطنة المنتجة من خلال ما يحدثه من تطور فكري لدى المتعلم لينتج لنا مواطنين لديهم الرغبة في الإنتاج والتجديد، فالكثير من الدول تغيرت خلال الحقبة الماضية من خلال تطوير المواطن الذي قادها نحو التطور، وتعتبر الصين من دول العالم الأكثر سكاناً بعد الهند وعدد سكانها يتجاوز المليار نسمة، وهذا العدد الكبير من السكان لا يمكن الإنفاق عليه إذا لم يكن مجتمعا مبتكرا، لذا لجأت إلى التعليم ليحول المجتمع إلى مجتمع مبتكر في جميع المجالات، حتى تحولت الصناعات إلى صناعات عائلية تنجز في المؤسسات الصغيرة وفي الأسر، واليوم المنتجات الصينية تغزو العالم وأصبحت من الدول المتحكمة في الاقتصاد العالمي، فوجود الرغبة الحقيقية في التغيير في ظل التحديات التي تواجههم مكنها من تطوير مجتمعها من خلال تبني منظومة تعليمية تركز على خلق مواطنين لديهم الرغبة في الإنتاج والابتكار فكانت ثمار ذلك التعليم فيما نراه اليوم أمامنا.

أما كوريا الجنوبية فكانت التقانة والحداثة هي منطقها نحو العالم، فهي لم تصنع اقتصادا تقنيا فقط وإنما غيّرت فكر وأنماط تعامل العالم مع التقنية الحديثة، فأصبحت وجهة عالمية في مجال الحداثة والتقنية، وهذا المنتج لم يأتِ إلا من خلال بناء مجتمع تعليمي يرغب في العمل بجدية لإحداث التغيير بخلاف توجهات العالم ليوجد له اقتصادا مختلفا يمكنه من غزو العالم بمنتجاته، فأثبتت التجربة الكورية أنّ الاهتمام بالتعليم منطلق تحقيق النجاح ومواكبة الحداثة وتطوير الإنتاج وتحقيق التنافسية العالمية، وإثبات الجودة في المنتج الاقتصادي، بما يساعدها على احتكار أسواق عالمية من خلال منتجاتها التقنية، خاصة هذه الدول كان تركيزها في التعليم على الأنماط الثلاثة الرئيسية التي يحتاجها بناء المجتمع اليوم، لذا فمن يرغب في بناء مجتمع حديث يواكب العالم بحيث يصبح رقمًا في القائمة الدولية فإنّه منفذه هو الاهتمام بالتعليم ليصنع مجتمعا حديثاً.

أردت أن أكون بعيداً عن فكر الفلسفة وأنماطها، ابتعدت عن النقد لأضع أمثلة من دول تقدمت وصنعت مجدًا جديد لها، لذا كان تركيزي من خلال الحديث عن دول تقدمت لأنّها اهتمت بالتعليم وابتعدت عن التعليم السطحي الذي يهتم بمعالجة مشاكل القراءة والكتابة، لتركز على التعلم العميق والذي يصنع أفرادًا منتجين ووطنيين بالدرجة الأولى، فالعالم يتجاوزنا كثيراً ونحن مازلنا نركز على علاج مشاكل سطحية في تعليمنا، فالوقت لم يُعد ذا قيمة إذا أبطأنا في التطوير.

Hm.alsaidi2@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك