جمود الفكر الإسلامي

زاهر المحروقي

في السنوات الأخيرة أُثير كثير من النقاش حول الجمود، وتجديد الفكر الإسلامي، كما عُقدت العديد من الندوات تحت عناوين مختلفة، وكلها تتناول موضوع تجديد الفقه الإسلامي، دون أن تتحقق نتائج ملموسة؛ بل إن العكس هو الذي حصل؛ إذ إن الأمة انتكست إلى الخلف بعد أن ظهرت إلى الوجود حركات مشبوهة اتخذت من الدين شعاراً لها، وهي أبعد ما تكون عن تعاليم الدين، كاللجوء إلى القتل والإجرام وتكفير الآخر المسلم، حتى بسبب الاختلافات الفقهية البسيطة، ووصل الأمر إلى تفجير المساجد من قبل مسلمين على رؤوس مصلين مسلمين، رغم أن إزهاق روح أي إنسان لا يحل أبداً، فكما يذكر الشيخ بدر العبري في كتابه "القِيَم الخُلقية والإنسان..رؤى وتأملات في المفاهيم القرآنية"، إنَّ "قيمة الإنسان هي قيمة ذاتية، فلا تفترق هذه القيمة بدين ولا تختلف برأي أو مذهب ولا تتعدد بلون أو جنس؛ فالإنسان له قيمته لذاته البشرية، لا للونه ولا لجنسه ولا لقبيلته ولا لعشيرته؛ وعليه فدمه لا يُنتهك بمجرد اختلاف دينه، فلا يجوز إراقة دمه بمجرد كونه مشركاً أو ملحداً أو يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مخالفاً في المذهب والتوجه؛ فدمه من خلق الله تعالى، ونفسه الحية بيد الله وحده"، وفي الحقيقة هذه نظرة متقدمة جدًّا تحسب للشيخ بدر العبري، وهي في الأصل من صميم تعاليم الإسلام، وليت لو أخذ بها المسلمون ووعوها، فقد كانت كفيلة بأن تبعد الأمة الإسلامية عن الحروب المذهبية والطائفية التي تجري الآن وهي مرشحة بالصعود في قادم السنوات، وكل ذلك لأن باب الاجتهاد أغلق منذ زمن بعيد، وبقيت الأمة تقتات من التاريخ ما ينكأ الجراح.

وقد تزامنتْ مع صيحات التجديد هذه، صيحاتٌ أخرى ظهرت بقوة خاصة مع أحداث عام 2011، تنادي بالإصلاح السياسي؛ وهي في الواقع صيحات قديمة ظلت تتردد سنوات، إلا أنها ظهرت بقوة إلى العلن بعد أحداث تونس وعُرفت فيما بعد بـ"الربيع العربي"؛ مما يدل على أن الجمود لم يكن في الجانب الفقهي فقط، وإنما شمل مناحي الحياة كلها من الأوضاع السياسية والاقتصادية المتردية إلى التعليم، وانتشار الفساد والمحسوبية...وغيرها.

لقد طرحت مسألة التجديد والإصلاح سؤالاً مهمًّا لدى الكثيرين: هل يجب أن تُمنح أولوية الإصلاح للإصلاح السياسي أم الاقتصادي أم الديني؟ وللإجابة عن السؤال، يذكر د.جمال البنا في مقدمة كتابه "تجديد الإسلام..إعادة تأسيس منظومة المعرفة الإسلامية"، أنَّ أغلبية آراء الناس ترى أن الإصلاح السياسي هو ما يجب أن يبدأ أولاً، لأنه مفتاح كل صور الإصلاح الأخرى، فما لم تتخلص البلاد من النظم الاستبدادية التي تستأثر بالحكم وتحكم شعوبها بأحكام عسكرية وعرفية، فلن يكون هناك مجال لأي إصلاح آخر، إلا أن د.البنا يرى خلاف ذلك؛ إذ إنَّ الإصلاح الإسلامي هو الأولى بالأهمية والأحق بالبداية، فمع أن الإصلاح السياسي والاقتصادي والديني كلها وجوه لقضية واحدة هي الإصلاح، وأن كل واحد فيها له أهميته وأنه يتأثر بالوجوه الأخرى ويؤثر عليها، إلا أن هناك عوامل تعطي التجديد الإسلامي الأولوية، لأن هذا الإصلاح يُعنى بجانبين اتصلا بالدين يمثلان الأهمية العظمى في المجتمع -فرداً أو جماعة- هما العقل والضمير؛ فبالعقل يميز الفرد ما بين الخطأ والصواب والهدى والضلال، فهو "بوصلة" حياته، فإذا خربت أو انعدمت أصبح تائهاً يتخبط، فيؤمن بالخرافة ويظن أنها الحقيقة، ويتمسك بالضلال ويحسبه الهدى، فيجني على نفسه وأسرته والمجتمع؛ أما عن الضمير فهو الذخر الثاني الذي يميز الإنسان عن الحيوان، وكانت الأديان هي أول من قدمه للبشرية، وبفضله ميزت بين الخير والشر وما يجب وما لا يجب، والأساس الذي يقوم عليه التعامل بين الناس من صدق أو إخلاص أو وفاء، فهذا الضمير الذي هو مفخرة الأديان، حدث له تحول خطير -حسب رأي البنا- إذ تحول من مجال العلاقات الإنسانية إلى مجال الشعائر العبادية؛ فتصور المسلم النمطي أن ضميره لا يمكن أن يستريح إلا إذا صلى الصلوات الخمس في ميعادها وصام رمضان واجتنب المحرمات كأكل الخنزير وشرب الخمر، فإذا فعل هذا فقد أدى ما يمليه عليه الضمير المسلم، ولا حرج عليه بعد هذا إذا كذب أو نافق أو اتصف بخلق دنيء أو انتهز الفرص لتحقيق مكاسب فردية أو خَدَعَ...إلخ، وبهذا انهارت الأسس التي تقوم عليها العلاقات، كما فقد الإنسان الكرامة فأصبح يتقبل الاستغلال والاستعباد، ولا يتحرك ضميره تجاه أي ظلم لأن أداء الشعائر قد استنفد ضميره؛ ومن هنا يرى جمال البنا أن الإصلاح الديني له أولوية على كل إصلاح باعتباره هو الأساس الذي يجب أن يبدأ به الناس، لأن الإصلاح الديني ليس إصلاحاً للشعائر أو تجديد أصول الفقه، وإنما هو إصلاح النفس البشرية التي شل عقلها وشوه ضميرها، ويذكر البنا أن الحركة الإصلاحية الأولى التي مكنت المجتمع الأوروبي من بدء مسيرة التقدم كانت حركة الإصلاح الديني التي فتحت العقول وحررت الضمائر، وبهذا تهيأ المجتمع لتقبل أي إصلاح سياسي.

إنَّ توقف الاجتهاد أدى بالمسلمين أن يمنحوا العقل إجازة مفتوحة، وهذا بدوره غيب الضمير؛ فعاش المسلمون في الماضي ونسوا حاضرهم ومستقبلهم، فقدسوا آراء الأشخاص ورفعوها إلى مرتبة "المقدس"، فلا يجوز نقد أقوالهم ولا تصرفاتهم، وعندما ظهر من يدعو إلى تنقيح السنة النبوية الشريفة مما لحق بها من الأذى فإذا هم يقابَلون بالحرب وكأنهم خرجوا من الملة، وباستثناءات قليلة في الوطن الإسلامي فإنك نادراً ما تجد فقيهاً ملماً بالعصر الذي يعيش فيه ويتابع ما يجري في العالم من أحداث ومن تطور، وكأن الإسلام هو الجمود على موروثات ومرويات الكتب القديمة فقط؛ فاللوم يقع على الدعاة لأنهم لا يعرفون طبيعة العصر الذي يعيشون فيه والمنطق الذي يقنع أهله والشبهات التي جدت في العالم، وهذا ماذا أنتج؟ أنتج جيلاً يتقاتل فيما بينه باسم المذاهب، والعدو الإسرائيلي متربص بالكل، ومن يلقي نظرة على مواقع الحوار في الإنترنت يصاب بحالة من الغثيان الشديدة؛ فيجد أن هناك من يعيش متأخراً عن عصره بألف سنة، يناقش قضايا اختفت ونُسِيتْ، بل ويحارب فرقاً لا وجود لها، والأمة تحتاج إلى أن يلم أبناؤها بالعلوم العصرية، ولكن هناك من يطرح حتى الآن أسئلة مثل: هل معاوية صحابي أم لا؟ وهل اغتصب الخلافة من علي أم لا؟!

إنَّ جمود علماء المسلمين هو الذي أدى بهم إلى أن يكونوا في مؤخرة الركب؛ حيث اكتفى كل فريق بالتشبث بما قاله الأسلاف، فيما الخلافُ الفقهي يجب أن يكون علامة صحة ولا ضير من بقائه إلى آخر الدهر ما دام يخدم الناس، وللشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- قول جميل في هذا الشأن وهو "إن الذي ضخم الخلاف الفقهي وشغل الناس به على نحو مستهجن أمران: أولهما جهل الغوغاء وفرح الواحد منهم بحكم عرفه ومغالاته به، ولذلك ترى هؤلاء يقدمون فقه المضمضة والاستنشاق على رعاية العهود والأمانات، وهذا ضلال مبين؛ والأمر الثاني: طول أجل الفساد السياسي في تاريخنا؛ فقد أخرس الألسنة عن الكلام في الفقه الإداري والدستوري والدولي وضمانات الشورى والمال العام وأغرى أهل البطالة بالثرثرة المملة فيما وراء ذلك، حتى جعل جماهير تهتاج لقضية "وضع اليدين" أثناء الصلاة، ولا تتحرك بقوة لضرب الاستعمار المغير ومحو الأسباب التي جلبته"!

إنَّ جمودَ الفكر الإسلامي هو الذي أدى لنشوء كل الحركات المشبوهة؛ ابتداء ممن عرفوا بـ"الأفغان العرب"، وليس انتهاء بـ"داعش"؛ حيث استغل رجال الدين هؤلاء الشباب، وزرعوا فيهم أن أرض الجهاد هي أفغانستان، وهم لم يكونوا يعلموا بأنهم مجرد أدوات في يد أمريكا تنفيذاً لمخطط "زبيجينيو بريجنسكي" مستشار الرئيس كارتر للأمن القومي بتطويق الاتحاد السوفييتي والشيوعية، وقد ظهرت في تلك الفترة أشرطة كاسيت وكتب ومطويات تحث الشباب العربي على الجهاد، وانبرى علماء يتحدثون عن أهمية الجهاد في أفغانستان والشيشان والبوسنة، ثم تنكر هؤلاء العلماء أنفسهم للشباب المجاهدين ضحايا فتاواهم، عندما تغيرت الظروف واستنفدت أمريكا هدفها من الشباب العربي الذي كان مصيره الزج به في معتقل جوانتانامو في أسوأ الظروف، ولكن رغم تلك التجارب المرة إلا أنَّ المسألة تتكرر الآن في سوريا، والغريب أن يتم الإعلان عن تشكيل تحالف إسلامي "وهمي" لمحاربة الإرهاب، فيما الإرهابُ الإصلي موجود في الفكر المنغلق الذي نشأت منه كل حركات الإرهاب، والأغرب أن إسرائيل بعيدةٌ تماماً عن فكر وجهاد هذه الحركات المشبوهة، وهذا دليل كبير على وجود خلل في العقل والفكر والضمير.

تعليق عبر الفيس بوك