التدخل الخارجي

عبيدلي العبيدلي

لو أمعن المتابع لحركة المشهد السياسي/ الاقتصادي العربي المعاصر، وعلى وجه التحديد خلال السنوات العشر الماضية، وركز على المشكلات التي برزت على سطح ذلك المشهد، وما يزال غيرها يتناسل منها، وأجرى مقارنة مع مناطق أخرى في العالم، فمن غير المستبعد أن يصبح فريسة سهلة لموجة من الإحباط الشديد، التي تتزامن مع موجة أخرى من اليأس التي تكاد أن تكبل حركة التطور العربي، وتجعلها أسيرة حالة من السكون غير المنطقي، عندما يتعلق الأمر بحركة تطور الأمم وتقدمها.

تزداد الحالة سوءا عندما يلجأ ذلك المشاهد إلى إجراء مقارنات مع أمم أخرى، مستخدما كل أدوات المنطق والتحليل العلمي المتعارف عليها دوليا، كي يكتشف أن أمما نفوقها في كفاءة مواردنا البشرية، ونتجاوزها في مستوى التحولات السياسية الإيجابية التي مرت بها المنطقة العربية، تجاوزتنا عند الحديث عن الإنجازات العلمية التي حققتها، والتحولات السياسية التي عرفتها.

يفرز هذه التفاعل بين اليأس والإحباط حالة مرضية تكاد أن تتحول إلى أعراض مزمنة يمكن تلخيصها في الأعراض التالية:

1- حالة غير مسبوقة من جلد النفسي الذاتي، وعلى نحو مستمر، يلقي بتبعية الحالة المتردية التي نعاني منها، على "العرب" وحدهم، دون سواهم من القوى العالمية والإقليمية. ويعتبر العرب وحدهم المسؤولين عن التقهقر النسبي، بل وربما يصل الأمر إلى التصنيف المطلق الذي تعاني من البلاد العربية. وتنتقي حالة الجلد الذاتي هذه ظواهر متفرقة من هنا وهناك، وتستعين بأرقام إحصائيّة تستقيها من تقارير هذا المركز أو تلك المؤسسة، كي تبرر النظرة السوداوية التي باتت تسيطر على منهج التحليلات العربية.

2- وقوع غير مباشر، وبأشكال جديدة، في تفسيرات "نظرية المؤامرة"، التي، عوضا عن تشخيص المصالح، والبحث عن الأسباب الحقيقية، تكتفي بتفسير ما وصلنا له، أنّه لا يعدو كونه "اتفاقات"، تحاشيًا لاستخدام تعبير "مؤامرة"، تتم بين قوى يجري بناء قوائمها كي تأتي منسجمة مع الرغبة في جلد الذات، وتقوي عناصر تناميها واستمرارها.

3- معارضة شديدة غير قابلة للنقاش للانخراط في أي عمل وطني تنموي، من شأنه المساهمة في انتشال العرب ككل، أو كل قطر عربي على حدة، من الحالة المتردية التي يعاني منها، أو الحد من خطر التدهوّر المحدق بهم أو به، ومن ثمّ الاستسلام لقوانين السكون، ورفض دعوات التمرد عليه.

الاكتفاء بإلقاء اللوم على السلطات الحاكمة، أو الاستهزاء بالقوى السياسية المنظمة، واضعًا الجميع في سلة المسؤولية عما وصلنا إليه، نحن العرب، من تخلف، مبعدًا المسؤولية عن المواطن العادي، الذي يتحمل، في حقيقة الأمر، نسبة عالية من مسؤولية التخلف الذي نتحدث عنه.

لكن قراءة علمية لهذا المشهد، ومحاولة جادة لتشخيص أسباب الحالة التي نتحدث عنها ستجد نفسها أمام الحقائق التالية:

1- سلامة تشخيص الحالة وخطأ منهج الاستنتاج. فليس هناك من ينكر أنّ العرب اليوم ليسوا في أفضل حالاتهم بالقياس المطلق، قبل النسبي، خاصة عندما يتم هذا القياس آخذا بعين الاعتبار الموارد البشرية العربية الكفوءة، والثروات الطبيعية ذات الأهمية الاستراتيجية العالمية، وفي المقدمة منها النفط، والمكانة الدينية، وعلى وجه التحديد، السماوية منها. فمكة المكة، والقدس الشريف يقعان في قلب المنطقة العربية. لكن الخطأ يكمن في تحميل الذات وحدها المسؤولية.

2- فشل المحاولات السطحية في معالجة حالة التدهور هذه، والمقصود هنا هذا الزخم اللافت من اللقاءات الإقليمية، والمؤتمرات الدولية، التي باتت تدور في حلقة مفرغة، وتجتر الحلول الفاشلة. إذ يصعب اليوم مرور شهر، وربما أقل من ذلك، دون أن تبرز دعوة لعقد لقاء هنا، أو مؤتمر هناك لحل هذه المشكلة أو تلك. وغالبا ما تنتهي هذه الدعوات إما إلى فشل ذريع ملموس، أو تأجيل غير محدد غير مدروس، أو ترحيل للمشكلة غير معروف.

3- عمق التدخل الخارجي، ومستوى "التطفل" في الشأن الداخلي الذي تعاني منه المنطقة العربية بسبب هذه المكانة المتنامية الأهمية التي تحظى بها، حتى وصل الأمر إلى أنّ نهضتها لا يمكن أن تتحقق إلا على حساب جيرانها من الدول الأخرى. والعكس صحيح تماما، فتقدم الدول الأخرى مرتبط بشكل مباشر، لا يقبل الجدال، بتراجع البلدان العربية. هذا المصير المرتبط، على نحو وثيق بدرجة التدخل الخارجي ومستواه، حالة تاريخية ينبغي البحث عن وسائل مبدعة للإفلات منها، والتمرّد على قوانينها. فهي في حقيقة الأمر العامل المؤثر الرئيس، دون إغفال العناصر الأخرى، بما فيها الذاتية منها، عن حالة التردي التي نتحدث عنها. هذا يقودنا إلى أنه لو خرج ذلك المشاهد من حالة اليأس والإحباط المزدوجة، وتمعن أكثر عند قراءة المشهد، فسوف يكتشف أن عامل التدخل الخارجي، هو العنصر الأكثر فعلا الذي أوصل العرب إلى هذه الحالة من التخلف، مع التأكيد هنا على ضرورة عدم إخفاء أو تمويه المسؤولية الذاتية. لكن القصد أن المنطقة العربية، تعاني أكثر من سواها من بلدان العالم الثالث الأخرى من هذا التدخل الخارجي في شؤونها الداخلية، بفضل مكانتها التاريخية، فهي كما أشرنا مهبط الديانات السماوية أولا، وحاضنة الحضارات التاريخية ثانيا، وخازنة لأهم ثروة طبيعية استراتيجية معاصرة ثالثا وليس أخيرًا.

هذه الحالة المتفردة التي تميّز المنطقة، سلبا أو إيجابًا، عن البلدان الأخرى، تقتضي من يحاول الإصلاح، أو يدعو للتغيير أن يضع العامل الخارجي في خانته الصحيحة، ويعطيه الثقل الذي يستحقه، دون إغفال أو طمس للدور الذي تمارسه العوامل الذاتية الداخلية.

ومتى ما وصلنا إلى المعادلة الصحيحة التي توازن بين ما هو داخلي محظ، وخارجي خالص، بوسعنا الخروج من حالة المرض المزدوج بين الإحباط واليأس، ووضع أقدامنا على الطريق الصحيح للنهوض بالأمة وانتشالها من واقعها المتخلف الذي تعاني منه.

تعليق عبر الفيس بوك