"أنا وأخي عاصم لا نسب الناس"

د. سَيْف المعمري

كان الأسبوع الماضي مشحوناً بالأحداث في المنطقة الخليجية: الفكرية منها، أو السياسية، أو الإعلامية.. وكانت لي فرصة المشاركة في حَدَث فكري تمثَّل في منتدى الخليج ودراسات الجزيرة العربية؛ حيث التقيت عددا كبيرا من الباحثين والمهتمين في مجالات التعليم والسياسة في المنطقة الخليجية، كُنت أبحثُ عن أمل يُمكن أن تبثه هذه النقاشات في الغد الذي يقترب أكثر مما يتخيله كثيرون، كنت أبحث عن روح جديدة يمكن أن تبث في هذه الأوقات العصيبة التي لا يقين فيها في أي شيء لا بالحاضر ولا بالمستقبل، لكن يبدو أن أصعب شيء هو الإمساك بالتفاؤل في هذه الأوقات، فما عايشته في هذا المنتدى من مواقف وما استمعت إليه من نقاشات وحوارات، وما تابعته في بقية الأسبوع من سجالات صحفية وإعلامية حول قضايا خليجية مختلفة، خرج فيها البعض عن دائرة الحاضر إلى دائرة الماضي، ومن حالة المنطق إلى حالة اللامنطق، وكأننا نمضي في طريق، والعالم المتقدم يمضي في طريق آخر، وكأننا لا نتعلم من أي شيء من حولنا، نعتقد أننا نرى لكننا لا نُبصر ما نراه، في لحظات لا يرى فيها البعض إلا ما يريد أن يراه، ولا يسمع إلا ما يريد أن يسمعه، ضجيج يملأ كل الساحات، ووسط الضجيج لا يمكن لأحد أن يسمع أحداً.

جعلني كل ما جَرَى الأسبوع الماضي أسترجع قصة للخليفة العادل عُمر بن الخطاب، هذه القصة التي يمكن أن نقرأ فيها هذا الواقع الذي نعيشه بشكل مختلف؛ لعلَّنا نهتدي بعد كل هذا التيه الذي نعيشه، هذا الخليفة الذي ذكر أنه يوما كان يمضي على دابته فمر على رجل سبه في الطريق، فلم يرد عليه وظل سائرا، لكن هذا الرجل أبى إلا أن ينال من حلمه وصبره، وظل يتبعه وهو سائر ويسبه، وتبعه حتى وصل سيدنا عمر إلى داره، عندها التفت إليه وقال له: "يا هذا، أنا وعاصم أخي لا نسب الناس"، لم يفهم ذلك الرجل مثل هذه الإجابة، ولم يفهم كثيرون هذا الحلم، في وقت ينتشر فيه السبُّ بشتى صوره اليوم في الحياة العربية وعلى مختلف المستويات، ويتراجع الإحسان والاعتراف بالمشاركة في الفضل إلى أدنى مستوياته، الكل يريد أن يكون شريكا في الموجات الانفعالية السلبية، لكن قليلين هم من يريدون أن يكونوا جزءًا من جماعة العقلانية، هذا التهكم والتصريحات غير المسؤولة، والتعليقات غير السوية التي تخرج من هنا وهناك من مسؤولين وإعلاميين ومواطنين عاديين مؤشر على انحدار كبير في الأخلاق في المنطقة العربية بشكل عام وفي المنطقة الخليجية بشكل خاص، ولا أعرف ما الذي نفعله في حاضرنا ونحن أشبه بريشة في مهب الريح لا يمكن أن تصمُد إلا بالاعتراف ببعضنا، والحديث عن أجمل ما يحمله كل مجتمع من مجتمعاتنا، بدلا من البحث عن نقاط الضعف في كل منا، أو اختلاق حالة من الوهم الجماعي بالتفوق وتسويقها في مجاميع لا تعي من الخطابات والكلمات التي تسمعها إلا قشورها.

لقد علَّق الأديبُ السودانيُّ الكبير الطيب صالح على الموقف الكبير الذي وقفه الخليفة العادل عمر بن الخطاب ليس من الرجل الذي قام بسبه، ولكن على العبارة الخالدة التي أطلقها: "أنا وأخي عاصم لا نسب الناس"، فإشراكه أخاه عاصم جد الخليفة عمر بن عبدالعزيز فيه تركيز على الفضيلة بدلا من التركيز على الرذيلة، فلم يشأ أن يستأثر بالفضل لوحده، بل أكد على أنه هو وأخاه يحملان نفس الفضيلة، هذه الفضيلة التي يبدو أنها غائبة عن كل المستويات الشعبية والمؤسساتية والسياسية، فلا مجال للاعتراف بفضل أحد، أو تزكية أحد يفوقنا في الفضل والعلم والأخلاق أو العمل الجاد، أصبح الأمر أشبه بوباء يجتاح المنطقة، حيث الكل يتعصب لنفسه ومجتمعه وحاضره، ويرى نفسه أنه متفوق وأكثر رؤية وحكمة، وأنه يملك الحقيقة المطلقة في زمن تلاشى فيه المطلق، ويعمل في الوقت نفسه على سب الآخر والتقليل من شأنه، ووصفه بما لا يليق به، وكأننا لا ننتمي إلى هذا التاريخ الذي يقدم لنا هذه الأمثلة الناصعة، وكأننا لا يمكن أن نتقدم إلا بهدم الآخر، وكأننا لا يمكن أن نعمل معا على تحقيق نجاحات مشتركة!!

ما يجري في الساحة من تجاذبات ومشادات يديرها مجموعة من المقامرين من الكُتَّاب والمفكرين والسياسيين في المنطقة يُمكن وصفها بحالة إفلاس فكري وأخلاقي، يجب أنْ لا تخرجنا عن حالة الاتزان والعقلانية التي عرفنا بها طوال تاريخنا؛ فنحن صخرة راسخة على أرض صلبة من القيم والمبادئ في بحر متحرك من الأهواء والتقلبات، وحمدًا لله أن التاريخ المعاصر يسجل أن هذه البقعة الجغرافية الوحيدة في الوطن العربي التي لم يخرج منها أي قدح في الآخر طوال خمسة وأربعين عاما على مختلف المستويات، بل كان دائما يخرج منها الاعتراف بالفضل والمبادرة به -شعباً وحكومة- لكل من يشاركنا تنميتنا ومناسباتنا وأفراحنا وأحزاننا، ولنا أن نتخيَّل لو أنَّ كلَّ بلد عربي تمسك بهذا النهج كيف ستكون حال الأمة، هل ستكون ممزقة الأوصال كما نراها اليوم؟ لنا أن نتخيل لو أن الجهد والمال اللذين يخصصان لفئة لتقوم بصب الماء على الزيت بشكل يومي متواصل، خصص لمد جسور التعاون والمحبة، أو خصص لصناعة الفرح، هل كنا سنجد كل هذا اليأس والحزن يخيم على كثير من بقاع المنطقة اليوم؟

أطرحُ هذه التساؤلات، وعلى يقين بأنَّه حين يتلوَّث الجو بالغبار على الذين لا يريدون أن تنتقل لهم الفيروسات المعدية أن يسدُّوا أنوفهم، ويغلقوا أفواههم، ويغمضوا أعينهم، حتى لا ينتقل إليهم أي شيء من هذا الجو الملوث والمشحون بالسب والتعصب ونكران الآخر، عليهم أن يستمروا في السير كما استمر الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- دون أن يلتفتوا إلى أولئك الذين يصرون على النيل من هبتهم ووقارهم وأخلاقهم، وليكن ردهم "وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا"، وليردوا عليهم كما رد الخليفة عمر رضي الله: "نحن وأنتم يجب أنْ لا نسب الناس"، ولا نقدح في أي شعب من الشعوب التي حولنا، لا نريد الكلمات التي يعمل البعض على نظمها تدافع عنها، نريد أن نحافظ على فضائلنا فهي خير من يدافع عنها.

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك