نانسي.. المعلِّمة الأولى في العالم

د. سَيْف المعمري

لا أزال أذكر شهر سبتمبر عام 1983م حين أخذني والدي للالتحاق بالمدرسة -لأول مرة بعد فشل محاولتين للدخول إليها في سن أصغر- كان ذلك اليوم يوماً تاريخيًّا؛ لأنني لأول مرة ألتقي فيها "المُعلِّم"، واستشعر فيه الدور الكبير الذي يقوم به، كان يُدعى "إبراهيم" من دولة السودان، يحمل حقيبة بُنية كبيرة يضع فيها المنهج الذي يقوم بتدريسه، يبذل أقصى جهده لتعليم أطفال بعد الظهيرة في مدرسة "المقداد بن الأسود الدؤلي"، لا أزال أذكر العمل الشاق الذي كان يقوم به بتفانٍ وإخلاص، فلم يكن مِنَ السهل إكساب المهارات الأساسية لـ"35" طفلاً في وقت متأخر من اليوم، تقفز أمامي تفاصيل ذلك اليوم وكأنه كان بالأمس، وأسترجع ذاكرة لا يمكن أن تموت بمرور الزمن، ذاكرة نقش المعلمون جزءا كبيرا من تفاصيلها، إنَّه المعلم الذي يبقى في وجدان كل إنسان حين ينسى كثيرون؛ لأنه يُحرِّر الإنسان من أخطر عدو يمكن أن يواجهه؛ ألا وهو "الجهل"، الذي يجعل منه يدخل في "عبودية" أبدية، يستغل فيها من كل أحد، في عالم يزخر بالقهر والاستغلال والتمييز.

أستعيدُ كلَّ هذه الذكريات في هذه الفترة التي يمر فيها العالم بكل هذه الأزمات السياسية والاقتصادية والأخلاقية؛ لأنني أُدرك أنه في الوقت الذي يقوم فيه كثير من السياسيين والاقتصاديين بتفجير الصراعات والحروب وتحريض البشر على القتل والإرهاب، هناك معلمون يناضلون في صمت وفي ظروف صعبة من أجل تحرير الإنسان، وزرع الأمل بداخله، وإيقاظ روح العمل المبدع فيه، إنهم الروح التي لا تزال تنبض بالخير داخل كل مجتمع، وكثير منهم يعمل في ظروف صعبة، يواجه تحديات جمة، ولكنهم لا يستسلمون، لأنهم يدركون أن سلاح الكلمة أقوى من أي سلاح، والفكر هو القوة التي لا تُقهر وتبثُّ الخوف والقلق في قلوب كثير من أعداء النور، وفي وقت لم يُمنح فيه المعلم المكانة التي يستحقها، ولم يقدم كنموذج في الوسائل الاعلامية، ولم يمنح مساحة إن لم تتساوَ فلا تقل عن تلك المساحة التي تمنح لرجل دين يحرض على القتل، أو إرهابي يستعرض مهاراتها فيه، أو سياسي يمارس الكذب علنًا على الشاشات، إنَّه الوحيد الذي تتدنى قيمته في وقت ترتفع فيه قيمة كل شيء في المجتمعات النامية على وجه الخصوص، فكيف يمكن أن نخرج من دائرة "الضياع" و"الفوضى" دون أن نمنح المعلم المكانة العليا التي يستحقها نظير جهده في حماية العالم من أخطاء السياسيين وعلماء الدين والاقتصاديين الجسمية في هذا العالم؟

لقد أسعدني كثيرا أن يُوجد من يكترث للمعلم، أن يوجد من يشعل شمعة ليجعل بصيص نورها يقود إلى تغيير كبير في هذا العالم؛ لأنَّ العالم لن يكون أفضل للحياة إن لم يوضع المعلمون الحقيقيون المثابرون المخلصون تاجَ فخر على رأس كل مؤسساته واحتفالاته وخطاباته، ولقد أشعلت مؤسسة "فاركي" -الذراع الخيرية لشركة "جي.إي.إم.إس أديوكيشن" (جيمس للتعليم)- هذه الشمعة بتخصيصها جائزة تعرف "بجائزة نوبل" لأفضل معلم على مستوى العالم تقديرا لدور المعلم وتحسينا لمكانة مهنة التدريس التي أظهرت "دراسة مؤشر وضع المعلم في العالم" التي قامت بها المؤسسة في العام 2013 على 21 دولة في العالم؛ حيث ظهر أنَّ أكثرَ من ثُلث أولياء الأمور لا ينصحون أبناءهم على الإطلاق لامتهان التدريس مهنة لهم، وفي ضوء ذلك جاءت هذه الجائزة الأعلى في العالم التي يحصل المعلم الفائز بموجبها على جائزة مالية قدرها مليون دولار أمريكي، ويمنح لقب السفير العالمي لمؤسسة فاركي للمساهمة في رفع الوعي العالمي بقيمة المعلم.

وقد حصلت المعلمة الأمريكية "نانسي آتوبل" بلقب أفضل معلمة في العالم متفوقة على 5000 مرشح ومرشحة تقدموا من 127 دولة حول العالم، تم تصفيتهم من قبل لجنة تحكيم مؤلفة من خبراء تربويين على مستوى العالم في ضوء معايير؛ منها: اتباع ممارسات تربوية مبتكرة وفعالة، وتحقيق مردود تعليمي إيجابي داخل الصف والمدرسة، وتحقيق إنجازات تتجاوز حدود الصف الدراسي تؤكد أنَّ المرشَّح مثالا يُحتذى من قبل غيره من المعلمين والمعلمات؛ سواء كانت هذه الإنجازات تطوعا لخدمة المجتمع أو تفوقا في أنشطة رياضية وتقديم إسهامات في الحوار العام السائد حول رفع قيمة مهنة التدريس؛ سواء عن طريق كتابة المقالات أو مدونات أو المشاركة في منصات التواصل الاجتماعي، وإعداد الطلاب الصغار ليكونوا مواطنين عالميين، وتحسين إمكانية الانتفاع بالتعليم وجودة التعليم للأطفال من جميع المستويات والخلفيات، والحصول على تقدير من جهة محايدة بشأن إنجازات المعلم الصفية واللاصفية، ويشمل ذلك الطلاب والزملاء والرؤساء في العمل وأعضاء المجتمع المحيط، والمعيار الأخير وهو تشجيع الآخرين على امتهان مهنة التعليم، وهي معايير تعكس السمات المرغوبة في المعلم التي لا يمكن له بدونها أن يكون مؤثراً في صفه الدراسي وبلده؛ لأنَّه حين يكون المعلم مؤثراً في بناء شخصية إنسانية سوية؛ فهذا يعني تقليل فرص تأثير القوى الأخرى في هذه الشخصية.

فازت نانسي بالجائزة لأنها تركتْ أثرا كبيرا في مجتمعها منذ أن بدأتْ تُمارس مهنة التدريس في العام 1973م؛ فهي ليست مجرد معلمة إنما مؤلفة لتسعة كتب، وناشطة اجتماعية. أما طلبتها، فقد أصبح كثيرٌ منهم كُتابا ومؤلفين يُشار إليهم بالبنان؛ لأنهم عندما كانوا في صفها كان كل واحد منهم يقرأ كل عام ما يقارب الأربعين كتاباً تغطي أنواع مختلفة من المعارف، ولم تكتفِ بذلك، بل حين قامت في العام 1990 بتأسيس مدرسة نموذجية غير ربحية للصفوف الابتدائية والإعدادية؛ حيث أصبحت مكانا يقصده المعلمين من مختلف أنحاء الولايات المتحدة للتعرف على أفضل الممارسات التربوية والتعليمية، ولم تكن لتحقق ذلك، إلا لأنها كما قالت عن نفسها "أنني أعشق التدريس وهي المهنة التي كرست لها حياتي"، هذا يخلص كل هذا النجاح؛ فلا نجاح يُمكن أن نحققه دون حب وانغماس في كل ما نقوم به.

كان لافتا جدًّا أنْ لا يوجد في قائمة العشرة النهائية التي تم اختيار نانسي من ضمنها أي معلم عربي أو خليجي رغم توافر الإمكانات والظروف التي تفوق تلك التي توافرت لآخرين دخلوا في هذه القائمة وهم ثلاثة من الولايات المتحدة الأمريكية وواحد من كل من أفغانستان والهند وهاييتي وكينيا وكمبوديا وماليزيا، وهذا يعكس دور المعلم النضالي في البلدان الفقيرة أو تلك التي تعاني من صراعات، ولا أعرف حقا إن كان هناك معلمون عرب وخليجيون قد ترشحوا لهذه الجائزة أم لا، ولكن غيابهم يعكس حقيقة ما يعانيه التعليم في الوطن العربي على مختلف المؤشرات؛ سواء تلك المتعلقة بالطلاب وتحصيلهم، أو تلك المتعلقة بالمعملين وقدرتهم على التنافس، إنه الوقت الذي يجب أن نستعيد فيه زمام المبادرة ونحاول أن ندرس أوضاع المعلمين ونُحسِّن منها، ونُهيِّئ الفرص المختلفة للإعلاء من شأن هذه المهنة العظيمة؛ لأننا لن نتقدم خطوة للأمام دون أن نوجد المعلم المؤمن برسالته، والمطمئن فيها.

لا بُدَّ أن نتأمل جيدا الكلمات التي قالها صني فاركي مؤسس مؤسسة فاركي، والتي تعكس الحقيقة التي يعيشها المعلمون في العالم، والتي تتطلب تدخلًا ما؛ حيث قال: "علينا جميعاً أن نجد سبلاً جديدة لاحتفاء بالمعلم، وأن نخبر العالم الذي بات مهووساً بمشاهير الفن والرياضة أن المعلم لا يقل شهرة ولا أهمية ولا قيمة عن أولئك النجوم، بل هو الأجدر بالاحترام والتقدير، لا سيما وأننا... نحن في حاجة لمعلمين قديرين لبناء جيل عظيم من العقول، وإلا سنعجز عن التصدي للمشكلات الجمَّة التي يُواجهها عالمنا"؛ إذن لا طريق للتصدي لأي إشكاليات وتحديات إلا من خلال وجود معلمين يشعرون بقيمتهم في مجتمعاتهم، ويقدمون كنماذج عليا بدلا من أن تلصق بهم الصور النمطية السلبية.. كما أن المعلمين لابد أن يحافظوا على قدسية هذه المهنة ويمنحوها حقها من الإخلاص والنضال، وأنا على يقين أن في هذا الوطن من المعلمين والمعلمات الذين إن شاركوا في هذا الجائزة، فسوف يُنافسون فيها بقوة إن لم توصلهم إلى منصة التتويج فسوف توصلهم إلى التصفيات النهائية.

تعليق عبر الفيس بوك