النمو الثقافي

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟(22)

د. صالح الفهدي

تتكرَّر مشاهد أمام ناظري، أو كلمات على مسامعي كأنْ أسمع ألفاظاً غير مُلائمة في مدرجات الجماهير الرياضية كنت أسمعها منذ أكثر من عقدين من الزمان، أو كلمات ساخرة هازئة يقولها الشاب لنفسه أو لغيره تكرَّرت على مسامعي على مدى عقود، أو أرى صوراً لعادات رتيبة لا تتناسب مع فكر العصر وطبيعته، أو أقرأ نكتا هازئة متداولة، أو أرصد سلوكيات تأبى التغيير الإيجابي. حين أتعرض لكل هذه الأفانين أسأل نفسي عن معنى النمو وماهية معاييره للفرد والجماعة؛ لهذا آثرت أن أثير أسئلة في هذا المقال الذي سيأخذ طابعاً مختلفاً من أجل التوقف عند مُسلَّمات كثيرة كي نفهم معناها، ولا تمضي بنا الحياة ثم نكتشف في وقت متأخر أننا كنا مصابين بـ"نقص نمو" في جوانب معينة..! قطعاً لا أقصد به النمو الجسدي وإنما الثقافي في جميع مساقيه.

نسمعُ كثيراً عبارة "نمو المجتمع"، بل ولدينا وزارة باسم "التنمية الاجتماعية"، ودائماً ما نكرر أحد أهم أهدافنا المكرورة وغير المحددة وهي "النماء والتطوير للمجتمع".. لكن ماذا نقصد بالنمو؟ وهل نملك معايير معينة لقياس النمو؟ وهل نقوم بالتدقيق في البنى الاجتماعية لنستشف مدى ما تحقق من نمو اجتماعي؟! هذا المقال هو طرح أسئلة وليس محصلة نتائج لأنني أعترف بأنَّ هذا الجانب له تفريعاته المعمَّقة، وتشعباته المتنوعة ثقافيًّا ومناطقيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا...وغيرها. السؤال هو: هل نمونا ثقافيًّا كأفراد وكجماعة؟! بمعنى: هل تقدمنا في مختلف الصعد، واتسع لدينا الإدراك الثقافي الذي يشمل جوانب فنية وإعلامية وتعليمية ولغوية وعاطفية وفكرية وإبداعية وسلوكية (بما في ذلك من عادات وتقاليد متوارثة)؟! أقصد من وراء ذلك أن نتوقف لنسأل أنفسنا: هل بالفعل نمونا بمعنى تطورنا إلى الأفضل عبر السنوات والعقود على الأقل الثلاثة الماضية وهي عمر جيل في مفهوم ابن خلدون؟! هل عقلنا مفهوم النمو الثقافي لنقف أمام إشارات معينة فنحكم على أنفسنا أننا نمونا في جوانب محددة أو أننا تقهقرنا فيها؟!

لننطلق من مقولة الراحل د.إبراهيم الفقي: "الحياة التي تعيشها الآن ليست إلا انعكاسا لأفكارك وقراراتك واختياراتك سواء كنت مدركا لذلك أم لا، ولو أخذت المسؤولية تكون قد بدأت الطريق إلى التغيير والتقدم نحو النمو"؛ هذا يعني أنَّ النقطة التي نقف عندها هنا/الآن هي مؤشر على النمو صعوداً، أو التقهقر رجوعاً، لا يوجد في وجهة نظري ما يسمى البقاء في نفس الموضع!

يُمكننا أن ننظر في عدة مؤشرات على النمو -من وجهة نظري- على سبيل المثال:

- في الإعلام: هل تطور إعلامنا على صعيد الأفكار، واللغة، والطرح، والقدرات، والتقنيات، أم ظل الإعلام أسير اللغة والأفكار والتوجهات التي سار عليها السلف؟!

- في العادات والتقاليد: ما مدى تطورنا في الأخذ بالمناسب من العادات المتوارثة، أم أننا ذهبنا إلى الطرف الآخر في تبني عادات لا تمت إلى ثقافتنا بصلة على سبيل المحاكاة بدعوى التحضر؟

- في الإدراك الفكري: هل نشهد نمواً في مُحبِّي القراءة، وفي المكتبات العامة، أم تضاؤلاً في العدد، وقلةً في محفزات القراءة؟

- في النقد الاجتماعي: هل يوجد لدينا نقد اجتماعي بنَّاء، يهدف إلى إعادة النظر في البنى الاجتماعية، ويسعى إلى إعادة فهمها، وغربلتها ومن ثم ترتيبها، أم أننا حاربنا النقد الاجتماعي البناء، وقطعنا أطرافه من خلاف؟!

- في القاموس اللغوي: هل تشهد لغتنا إثراءً لغوياً متواصلاً أم تقهقراً في مستوى اللغة، وتسطيحاً في مستوى الألفاظ المتداولة؟

- في المنجز الثقافي: هل نرصد تزايداً في المنجزات الثقافية على مستوى التخطيط، والصروح، والمحتوى، والإنتاج، والبيئة الإبداعية، والأجواء الابتكارية أم تراجعاً في هذه الجوانب؟

- في المنجز العلمي: هل نلاحظ تصاعداً في المنجز العلمي على مستوى الدراسات والبحوث والإبتكارات، والمسابقات العلمية، والمناهج الواقعية، أم أن المنجز العلمي ضئيل، ومتراجع، وبطيء الحركة؟

- في الإدارة: هل تطوَّرت لدينا أساليب الإدارة لتواكب العصر في الشفافية، والسرعة، والمرونة، والفاعلية أم أنها لا تزال رهن التعقيدات والترهلات والأعباء المتراكمة؟

- في الهُوية: هل طوَّرنا الهوية بصفتها عاملاً متجدداً أم أننا ظللنا صلبين غير مرنين، نتمسك بقوالب جامدة، عصية على التغيير؟

- في التاريخ: هل ساعدنا التاريخ في الاستقراء الصحيح للأحداث، والتعلم من الوقائع، والاستفادة من الدروس، أم بقينا نجتر منه فقط البطولات دون أن يشكل رافداً ملهماً لمستقبلنا؟!

- في التجربة الديمقراطية: هل تقدَّمنا للنمو لصالح الوطن، أم تراجعنا لصالح المطامح الشخصية والقبلية والفئوية؟

- في الفهم الديني: هل توقفنا عند قوالب متوارثة في الفهم الديني، أم حاولنا إعادة القراءة وفق معطيات علمية، وتغيرات اجتماعية؟

- في القيم المجتمعية: هل ننمو إيجابياً نحو قيم ذات فاعلية مؤثرة، أم سلمنا أنفسنا للتقليد، والتزمت، والانغلاق، والتقوقع، والمفاهيم الجامدة؟

- في الأخلاق: هل نستطيع أن نرى أخلاقياتنا على أرضية الواقع وقد غدت سلوكيات راقية لها أثرها على حياتنا، أم أننا نشهد انحداراً في الأخلاقيات نراه في كثير من التصرفات والمشاهد غير المرضية؟

- في مُؤسَّسات المجتمع المدني: هل قطعنا خطوات نحو الأهداف المنشودة، أم بقينا نتافس على الكراسي، ونكيل التهم بالإفساد، ونتنازع على السلطات والصلاحيات والميزات؟

هذه الأسئلة وغيرها أردتها أن تكون رافداً لـ"تغذية راجعة" لكل فرد، وجماعة، بل ومؤسسة يعنيها مفهوم النمو، وهي تدعو إليه ليل نهار حتى لا تصبح حاملةً لبضاعة لا تعرف عنها شيئاً..!! فالمجتمعات التي تنشد الازدهار، وتقصد النمو، عليها أن تشهد تغير الصور، والأساليب، والمناهج إلى الأفضل. تقول سارة الليثي في موضوع لها بعنوان "الثقافة مؤشر نمو المجتمعات": "التنمية التى تتَّخذ من الإنسان غاية لها ينبغى أن تنطوى على بُعد ثقافي، والتنمية الثقافية لا تعني الحفاظ على التراث فقط، وإنما أيضاً تعنى إثراءه وتجديده حتى يمكن لعملية التحديث أن توفق بين متطلبات التغيير ومتطلبات استمرارية الحياة الثقافية".

لفت نظري في مسابقة وطنية انتهت مؤخراً ورأست فيها لجنة تقييم المقال والنص المسرحي، أنَّ كثيراً من كتابات الشباب يغلب عليها طرح متوجس من العولمة، ينظر لها من زاوية معينة، ومتشائم تجاه التكنولوجيا وكأنها عدو مداهم، وخطر جاثم! ناهيك عن تقليدية الطرح، وجاهزية الأحكام، وسطحية التناول!

هذا الوضع لم ينشأ من فراغ، لأننا أسلمنا أرجلنا لقيود الماضي الذي نتغنى بأيامه الجميلة، ولحظاته الساحرة، حتى أصابتنا "النستولوجيا" التي تعني الاشتياق الجارف للماضي، والإعراض عن الحاضر، وهذا في حد ذاته معرقل للنمو، ومقهقر للتطور، يقول محمد نعيم في ظاهرة تحليله للنستولوجيا الجماعية: "نحن البشر لدينا حنين لذكرياتنا السمعية والبصرية مع أعزاء غادروا حياتنا ولتجارب لم تكتمل وللحظات بعينها ربما بلا مبرر واضح.. أما النستولوجيا الجماعية وبدرجاتها المختلفة، فهي تعبير عن عجز معاصر في مواجهة تحديات الواقع أو تعام مقصود عن قراءته نتيجة للتناقضات الذاتية والموضوعية للنستولوجيين في علاقتهم بحاضرهم، بل وربما الأمر يتجاوز اللحظة الراهنة، فإذا هي تراكمات لهذا العجز تتوارثه أجيال عن أجيال يتحدث فيه كل جيل عن ماض ما أجمل، وتتزايد جرعات النستولوجيا ودرجاتها بزيادة كم ونوع الأسئلة المعاصرة المطلوب الإجابة عنها أو الهرب منها".

الخطرُ هنا ليس في الشغف بالماضي، بل فيما يصفه المفكر المغربي عبدالكريم الخطيبي في كتابه "المغرب العربي وقضايا الحداثة" بـ"ذاكرة تحاول أن تحيا في الكآبة ومن نفي الحاضر.. ذاكرة تحبس الانسان في حنين دائم الى زمن ميت.. وهي من جهة ثانية تعيش الحاضر كما لو كان حلما وكابوسا"!

هل نمونا بالفعل؛ أقصد ثقافياً بالطبع ليس جسديًّا؟! وكيف انعكس نمونا على جوانب الحياة المختلفة؟ كتب لي أحد الأصدقاء يقول: "يبدو لي -وأتمنى أن أكون مخطئاً- أن مجتمعنا لا يزال بمنأى بعيد عن إحكام العقل وتغليبه على العاطفة.. فالعاطفة لا تزال هي حاكمة النفس لا العقل، وأينما حضرت العاطفة فسد العقل. هناك مؤشرات كثيرة تؤيد هذا المذهب الذي ذهبت أنا إليه.. والسؤال لماذا ما زلنا كذلك؟! هل ضعف التعليم؟ الذي لم يكن له ذلك الدور الذي يخرج المجتمع من عباءة القبلية والفئوية؟! وفي الجانب الآخر والذي لا أراه بعيداً عن الأول: لماذا تستشري الشائعات في المجتمع العماني وبصورة غريبة جدًّا، لا بل تزداد في مضامينها وهي تتناقل بين هذا وذاك؟! لماذا حينما يأتي المرء منا بفكرة ما أو بطرح ما هو في قناعة نفسه وبناءً على معطياته يراه صائباً تنصب عليه التهم وعبارات الإسفاف والتجريح من كل حدب وصوب؟! لماذا؟! لأن الجهل هو الغالب! كيف وكلنا نحمل ما نحمل من تلكم الوثائق الأكاديمية، ولكننا بعيدون كلَّ البعد منها وعنها.. وبالتالي لا نعمل بما هدتنا إليه، وعليه نعم "معلمون" ولكننا لسنا "مثقفين"، فلا يساير العقل المتعلم إنما ما يساير العقل المثقف؛ ذلك القادر على الإتيان بما تعلم حينما يراد منه الإتيان به، ولأننا لم نستطع ذلك، ظللنا كما نحن عليه مجتمع: متعلم عاطفي لا مثقف عقلاني".

لستُ هنا في معرض التعقيب لأنني -وكما أشرت في البداية- أطرح أسئلة، لا أعرض نتائج.. أسئلة أردتُ منها أن تُوقفنا لبرهة من أجل التأمل، والتدبر، وربما مصارحة الذات، وتصحيح المفاهيم، أو المضي قدماً في الطريق الصحيح وإن كان خاطئاً بحسب المعتقدات..! لا يفهم من هذا الطرح أنه تجاهل لجوانب النمو، وتغافل عن أركان التطوير فليس هذا ما يقصده، وإنما القصد هو الوقوف عند ناصية السؤال عن النمو.. من أجل النمو ذاته!

تعليق عبر الفيس بوك