وأعادنا الإعصار لأنفسنا

زينب الغريبية

كنت أُتابع مع كثيرين بقلق أعصار "شابالا"، ليس فقط بصفتي مواطنة عُمانية ولكن أيضاً لأنّي من صلالة فهناك أهلي، وكثير من البيوت بها صديقات لي، وكنت أدعو الله سبحانه وتعالى أن يجنبنا كل آثاره المُدمرة، كنت ولا أزال أذكر الدروس الأولى التي تلقيتها حول هذه الأعاصير بأنّها لا تأتي إلا كعقاب لخلل في المجتمع، وكنت أسأل نفسي كثيراً ما الخلل في مجتمعنا، ونحن بلد آمن ومجتمع مُسالم، ليس لنا في كل ما يجري من حولنا لا ناقة ولا جمل، ولم نشارك في سفك دم أحد، أو نقف مع عدوان أو ظلم على أحد شعبًا وحكومة، كنت أطرد كل هذه الأفكار من رأسي ..وازداد قلقًا كل ما أسمع أن الإعصار يقترب، وأشاهد بالتلفزيون الحشد الكبير الذي يتجه إلى الجنوب..وخُيِّل لي أننا نعد أنفسنا لمعركة كبيرة ..ولابد أن نستعد لها بكل شيء ..بالعدة والعتاد والسيارات والطائرات والسفن، تحولت البلد خلال يومين فقط إلى تعبئة عامة كبيرة جدًا..لم نشاهدها من قبل..وسألت نفسي ..من الذي سينتصر في هذه المعركة التي لا نعرف قوة العدو فيها مهما عرفنا الدرجة التي تتصف بها قوته..، ولكني أيقنت أننا سنكون المنتصرين.. وأن هذا الإعصار جاء ليختبر قوتنا ..وإنسانيتنا قبل كل شيء.. ولذا يجب أن ننظر إليه نظرة أخرى غير تلك النظرة التي نحملها عن الظواهر الطبيعية المدمرة.

أيقنت أننا سننتصر على الإعصار عندما سمعت عن تجرد الناس عن ذواتهم في هذه اللحظات، حين بدأ النّاس يلتفتون إلى مساعدة بعضهم البعض، حين بدأوا يمدون أيدهم وكل ما يملكون، حين بدأوا يتكافلون ..ويتّحدون من أجل مواجهة هذا الخطر المشترك..حين بدأ الخير الكامن في النفوس يتحرك..ويخرج بصورة لا يخرج فيها في الأيام العادية..حين بدأ أصحاب الفورة يقومون بدورهم الحقيقي في المجتمع..يتبرعون للنّاس ببيوتهم وعماراتهم ..وبالمؤن والعتاد من محلاتهم ..حين لم يعد الناس يضعون كشوف حساب لا ينفقون..حين كنت أرى الجميع يتحرك.. ويقف في الميدان المسؤول الكبير مع الموظف الصغير ..والقائد العسكري مع الجندي.حين كان الكل يعمل بسرعة خارقة ..من أجل إكمال الاستعداد...يومان فقط أي ثمانية وأربعين ساعة غيّرت كثيرًا من المعتقدات التي نحملها عن أنفسنا ...أعادتنا إلى ذاتنا وقيمنا ..زادت من علاقتنا مع بعضنا ..التقى النّاس الذين لم يلتقوا منذ شهور أو سنين ..نظر الجار إلى جاره، والمسؤول إلى موظفيه ..وكانت أكتافهم متلاصقة وهم يعملون ..تلاشت كل الحواجز ..وأصحبت النّاس ترى ما لم تراه، وتعمل ما لا يمكن أن تعمله في بقية الأوضاع، إنّها اللحظة التي أبكتني كثيراً ..لأنّها أشعرتني بمشاهد لا يُمكن أن تمحى من ذاكرتي ..مشاهد كنت أظن أنّها لا يمكن أن تستعاد ..ولكن الإعصار أعادها ..مشاهد حين الناس كانت معاً قلوب واحدة..وعملهم واحد..لا شيء يفرقهم ..أو يمزق وحدتهم لا ثراء ولا خصومات..ولكن تغير المجتمع وتغيرت القيم ..وتفرق النّاس من بعد وحدة.

إن الإعصار هو خطر لا أحد يتمناه ..والأخطار كثيرة التي تتعرض لها البلدان..ولا يمكن أن يقهر بلد من أيّ خطر إذا كان سكانه متحدين، وإذا كانت مؤسساته قوية ..وما جرى أثناء "شابالا" كان أشبه بتدريب إنساني وطني لنا ..وهناك رسائل بعثها لنا ولابد أن نعيها ومنها: هل يجب أن نعود إلى إنسانيتنا في وقت الخطر فقط؟ أم أنها وسيلة من وسائل تماسك المجتمع يجب أن نجعلها غاية وقاعدة لنا وليست مجرد استثناء نلجأ إليه مضطرين تحت وطأة الخطر، ومنها هل يجب علينا أن نعمل بجد فقط أثناء التعرض للإعصار أم أن العمل الجاد يجب أن يكون مبدأ لنا طوال الوقت...لأنّ به نستطيع أن نحمي بلدنا من عشرات الأعاصير التي بعضها يأتي من البحر والبعض يأتي من الكسل والبعض يأتي من عدم وضوح الرؤية..هذه رسائل مهمة جدًا ..بعث بها لنا هذا الإعصار ..وأهم رسالة كانت في نهايته أو أنّ الله سبحانه وتعالى صرفه عنّا ..للخير الذي ظهر خلال فترة الانتظار ..للتماسك الذي ظهر بقوة بين الجميع ..فالله سبحانه وتعالى رؤوف دائمًا بالأمم التي يشاهد فيها مثل هذه الصورة النادرة في الحياة الإنسانية المعاصرة..ولذا لابد لنا حين ودعنا الإعصار ..ألا نعود إلى حياتنا العادية بدون هذه الدروس المهمة التي لا يمكن لنا أن نلتفت إليها في دوامة الحياة المادية التنافسية التي صادرت أعز ما نملك وهو ذواتنا الخيرة التي تعلو بالإنسان وتسمو به. وتعجل منه مصدر إنقاذ وعون لأخيه بدلاً من أن يكون مصدر غرق وتدمير له ..لا شيء يجعلنا متحدين كما قال توفيق الحكيم ذات مرة إلا ألم عظيم ..إلا خطر كبير ..إلا هدف كبير ..دعونا نلتفت إلى أهدافنا الكبرى في هذا الوطن ونعمل عليها بنفس الروح التي عملنا بها على وقاية أنفسنا من مخاطر إعصار "شابالا".

تعليق عبر الفيس بوك