قراءة في مغالطات خطاب ترشيد الإنفاق

د. سيف المعمري

كُلنا يعرف أننا سنواجه هذا اليوم الذي تنخفض فيه أسعار النفط، إنَّه اليوم الموعود الذي نمضي إليه بلامبالاة، ورغم أننا منذ عام ونحن نعيش في هذا اليوم الطويل ولا نزال غير مُبالينبما قد يحدثه من تأثيرات جسيمة على المدى الطويل في كل شيء، طالما أنَّ كلَّ شيء لا يُمكن أن يتحرك دون نفط، وطالما أننا لم نتمكن من "تنويع مصادر الدخل" خلال السنوات الماضية،وطالما أن الجميع من مختلف المستويات لا يزال يتعامل مع المال العام بعقلية "الغنيمة"،وطالما لم يتبلور لدينا حتى الآن مفهوم "المال العام"، حتى نعمل على حمياته والحفاظ عليه من أي هدر محتمل يمارسه الموظف البسيط والكبير،لكن ما هو ثابت أنه لا يوجد لدينا احتياط للمستقبل حين تنخفض الأسعار، ومع ذلك تواطأ الجميع مع هذا الواقع -سواء كانوا مسؤولين كبارا أم صغارا- فالكل يريد أن يظفر بما يقدر عليه من امتيازات وإن كانت بسيطة جدا، لكن ما مضى لا نستطيع أن نغير فيه شيئا ولا ينفع اليوم أن ننشغل باللوم، ونستعيد ما جرى إلا لاستخلاص الدروس، التي لا أحد يلتفت إليها إلا عند حلول الأزمة. لذا؛ فالسؤال الأكثر أهميةالآنهو هل سيتواطأ الجميع أيضا مع المغالطات التي تطرح حول الترشيد في الإنفاق؟

لقد آلمتني بعض الخطابات التي قرأتها الأسبوع الماضي في الصحف المحلية، أو تلك التي استمعت إليها في التليفزيون لبعض الأكاديميين والمحللين الاقتصاديين؛حيث عملوا فيها على تسطيح لما يجب أن تقوم به الحكومة،وعرضوا مسارات لا توصل إلى النتيجة المتوقعة؛ لأننا إذا أردنا أن نرشد الإنفاق فيجب علينا أن نقوم بذلك بطريقة منهجية، أي أن نعمل تقييم لمعرفة النفقات غير الضرورية التي تستقطع نسبة كبيرة من الإنفاق. وبعد ذلك، نبدأ في المعالجة، ولن نجد صعوبة في معرفة الهدر في الإنفاق؛ فكلنا يعرف أن هناك جوانب هدر كبيرة؛ سواء كانت على شكل امتيازات وظيفية أو في ازدواجية مهام وظيفية، أو في وظائف غير منتجة، أو في مشاريع غير ضرورية، أو في مشاريع مبالغ في كلفتها، أو في لجان لن يؤثر إلغاؤها على سير العمل، أو نفقات لمؤتمرات أو ندوات أو حفلات لا داعي لها؛ لذا فنحن نعرف أين يهدر المال، وأين يمكن أن نبدأ لتوفيره. أما أن يأتي البعض ويدور حول الحمى، ويحاول إعادة اختراع العجلة في هذه اللحظة التي نريد فيها أن نجد حلولا منطقية وواقعية لمواجهة أي تداعيات محتملة، فهو لا يساعد بذلك على بناء وعي جماعي حكومي وشعبي لمواجهة الأزمة، ويمكن تلخيص ما تناولته بعض الكاتبات في الموضوع الأسبوع الماضي وفق النقاط التالية:

1- جعل المواطن هو السبب الحقيقي لهذه التداعيات، ولا أعرف العبقرية التي قادت إلى مثل هذا الاستنتاج، وكلنا يعرف أن المواطن العماني من مختلف مستويات الدخل لا يزال يناضل من أجل تلبية متطلبات حياته وتحقيق أمنه واستقراره الأسري في سوق غير منضبط يتسم بارتفاع الأسعار في كل شيء، وفي ظل تدهور في جودة الخدمات الصحية والتعليمية يضطره في كثير من الأحيان لاستقطاع جزء كبير من دخله السنوي للإنفاق عليها؛ سواء في الداخل أو الخارج؛ فكيف يستطيع المواطن أن يساهم في ترشيد الإنفاق الحكومي؟ وما يحصل المواطن العماني من دخل ينفد خلال الأيام الخمسة الأولى ليس ترفا ولا هدرا ولكن تلبية لمتطلبات الاستقرار والإنفاق على الخدمات.

2- البدء في التوفير من الأشياء التي لا تستقطع الجزء الأكبر من الموازنة مثل الورق والأقلام والطباعة...وغيرها، وغض الطرف عن الجوانب التي تستقطع الجزء الكبير من الموازنة، ولا أعرف كيف يسوق هؤلاء لمثل هذه الأفكار، هل بالفعل أنهم لا يفهمون ولا يفقهون أم أشكل عليهم الأمر في هذا اللحظة؟! لا أعرف بالفعل كيف أفسر ذلك، ونحن نعرف أن هناك أشياء أخرى تأخذ من الموازنة، ألم يسأل هؤلاء كم يُكلف الفرد الواحد من ذوي الدرجات الخاصة أثناء سفره في مهمة رسمية؟ ألم يسألوا كم يكلف استئجار قاعة في فندق لمؤتمر في الوقت الذي تُوجد فيه عشرات القاعات الكبيرة في المؤسسات الحكومية بالمجان؟ ألم يسأل هؤلاء كم هي رواتب الخبراء الأجانب الذين يوجدون في كثير من المؤسسات الحكومية دون إنتاجية يمكن أن يتستبدلون بحامليشهادات -وهم كثر- من داخل هذه المؤسسات؟

3- رفع الدعم عن المحروقات سوف يكون العصا السحرية التي تحل إشكاليات الموازنة وتدهور أسعار النفط، بل إنَّ أحدهم في مقابلة تليفزيونية قال إنها ستجعل البلد أنقى هواءً وسيقل التلوث لأننا سنضطر للجوء إلى الطاقة النظيفة، ولا أعرف كيف يمكن أن يحدث ذلك، والمواطن حاليا لا يزال يعتمد على السيارة حتى في التنقل في المسافات البعيدة نتيجة ارتفاع تذاكر الطيران المحلي.

4- حالة الرفاهية التي يعيشها المواطنون هي التي أثقلت موازنة الدولة، واستنزفت الفوائض التي كان بالإمكان أن تدخر لمثل هذه الظروف، ومن أجل تجاوز هذه الأزمات، فإن المواطنين لابد أن يتحملوا المسؤولية اليوم، وأن يحصدوا بعض اتجاهاتهم غير الرشيدة في الإنفاق، وهذا أعتبره تجنيًا كبيرًا وقفزًا على الواقع، وتزييفا للحقيقة؛ لأنه إن كان هذا اتجاه فهو للأقلية البسيطة، أما الغالبية العظمى من المواطنين فقد عملوا على توظيف دخلوهم في امتلاك منازل لأسرهم؛ لذا حصل العمانيون على المركزالثاني بعد سنغافورة في نسبة امتلاك مسكن، متجاوزين في ذلك جميع دول الخليج، متحملين نسب الفائدة العالية التي فرضتها عليهم البنوك.

... إنَّ تحليلَ مضامين خطابات هؤلاء الكتاب والأكاديميين يقودنا إلى خلاصتين؛ إما أنَّ فهمهم للترشيد قاصرٌ جدًّا، أو أنهم يروجون لترشيد في غير مواضعه، ولن يقود إلا لتأزيم حياة المواطنين؛ لأنَّ المواطن هو الحلقة الأضعف في كل بلد، ليس لديه مدخرات، ولا شركات، ولا يزال يدفع أقساط البيت الذي يسكنه، ولا يزال يدفع قسط السيارة التي يركبها، فكيف يمكن أن يكون المواطن في ظل هذا الواقع منقذاً؟

علينا أن نبدأ، لكن إذا بدأنا من حيث انتهى هؤلاء الكتاب فنحن نمضي في المسار الخاطئ الذي لن يقودنا إلا إلى مزيد من التداعيات، ومزيد من التخبط، والواقع أن الترشيد هو عبارة عن معركة، ولكي نكسبها لابد أن نعرف العدو الذي نقاتله، وهو من وجهة نظري الإنفاق غير المبرر الذي لا يوجد أي توثيق له أو الإنفاق الذي يتم وفق متطلبات لا تخدم البلد، والوظائف الشرفية "التي ينال أصحابها رواتب وامتيازات بصفات مختلفة". أما العدو الأخير، فهو ضعف الانتماء وتأثيره في هدر المال العام، وهذا العدو يتطلب منها معركة تمتد لسنوات طويلة للتغلب عليه، وإلى إعادة بناء منظومات متعددة أخلاقية ومؤسساتية وقانونية، فهل نحن مستعدون للمضي في هذا المسار؟

saifn@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك