"موشكا" تحليق حول تخوم طفولة الأسطورة

علي العامري

فرغتُ للتوِّ من قراءة رواية "موشكا" وأنا في الدوام؛ حيث أعمل في حقل من حقول النفط وعلى مقربة من "منازل اللبان" القديمة في وادي أنضور العملاق الذي يلتوي كنهر جاف من أكتاف جبل سمحان الشمالية لينساح بهوادة وتثاقل إلى بادية قاحلة، وفي نفس المسار القديم الذي كانتْ تعبره قوافل اللبان إلى وادي شصر، ومن هناك إلى ممالك بعيدة في مصر وفلسطين وروما؛ ناشرة روائح اللبان المقدس الذي كان يُحرق في معابد العالم القديم.

أنْ تتكثف الملحمة بهذا الشكل المباغت من الحضور الحي الخارج من رداء الأسطورة الأبدية تحت شجرة اللبان، وبهذه اللغة الشعرية الراقية التي تأخذ بالألباب في أكثر من مشهد، ندرك نحن البشر حاجتنا للأدب وما يفعله بنا من نشوة عارمة تجتاح الوجدان إلى حد الدهشة الأولى.

ومن يقرأ رواية "موشكا" للكاتب المميز محمد الشحري -وهو من أهل ظفار المبللة ذاكرتها الطرية بأساطير ما قبل الطوفان، في مجتمع رعوي طفولي النزعة- يقرأها وهو كاتم أنفاسه إلى أن يخلص من مشهد إلى آخر من خلال لغة شعرية عالية الجودة ونازعة لجموح الخيال الأسطوري الذي يقفز من ذكريات الطفولة؛ حيث حكايات الجدات حول مواقد السمر في أمسيات غائرة في تخوم الذاكرة.

يبدأ الشحري من منطقة عصية على الفهم في سفينة النجاة أثناء الطوفان الذي غمر الأرض ذات يوم، وفي غمرة الحدث الجلل حيث يلتقي فتى من الأنس (أنشرون) بفتاة من الجن "موشكا" في إحدى أقبية السفينة وهي تتقاذفها الأمواج العاتية، في مشهد هيولى منذ بدايات الخلق في غمر المياه حيث لا يوجد شي سوى الماء، وكأنك في بداية سفر التكوين (1 فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ 2 وَكَانَتِ الأَرْضُ خَرِبَةً وَخَالِيَةً وَعَلَى وَجْهِ الْغَمْرِ ظُلْمَةٌ وَرُوحُ اللهِ يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ الْمِيَاهِ).

هكذا تأتي المفاجأة الأولى، وبدهشة صامتة يأتيك من خلف هذا الضباب الملتوي؛ حيث تبرز موشكا ككائن آثم مسجى بذنب المعصية الأولى لتختار منفاها الأبدي كشجرة لبان على سفوح سمحان الحارقة بين البادية والريف لتنزف بهدوء جرحها الظامئ عبيرا مقدسا يتقرب به البشر للآلهة القدماء: "احتارت موشكا في التعرف على أصل حكايتها؛ فلا تدري هل هي قدرية الخلق أم أن قصتها قد فصلت في اليوم السابع بعد تكوير الأرض..."، هكذا يصدمنا الشحري بالبداية الغامضة لموشكا ليفتح باب الاحتمالات في ذهن القارئ إلى تخوم لا تحد في أفق خيال الأنسان منذ وعيه الأول وحيرته الأولى، و(موشكا لا تحكى هكذا على نفس حانقة حاقدة ومغتاظة، موشكا أوقع من كلمات ترمى في وجه الريح أو تذر في سماء الفراغ ,بل تتلى على صفاء السمع وأغوار الأنصات، أو لا تقال أبدا...). هكذا بكل بساطة وتجلٍّ ورفعة وعناد فحكاية موشكا أكبر وأعقد من جلسة سمر تحت صفصاف حزين.

وحين اختارت موشكا منفاها الأبدي عقوبة على ذنبها العصي وعلى عادة طقوس الطهارة أختارت (أن أطرد من عالمكم الى عالم الأنسيين، لا أريد أن أدنِّس عالمكم الصامت ولا أريد العيش في عالم الأنس المخادع، سأطهر ذاتي سأكون شجرة لا تنبت ألا في أشد المناطق حرارة وجفافا....). وهكذا صارت بداية شجرة اللبان المقدسة.

ولكي يُميِّز أهله في ظفار كما ميَّز كازانتازاكي أهله الإغريق بغصن الغار الذهبي الذي يعصب على جباه المنتصرين، يميز محمد الشحري أهل ظفار بقوله "ترسل إلى أطهر الأمكنة على وجه الأرض والى أصفى الناس خلقا ومعاملة على وجه البسيطة وممن لا يزالون يحتفظون بنقاء الأنسان الهابط من السماء....." وهو لم يشطط في المزار ولم يبعد في النجعة بل أكد خصلة في أهل ظفار لا تزال إلى اليوم وهي البساطة والجمال البدائي والعفة المترفعة عن الدناءات.

لم أقتطف هذه الشذرات من هذه الرواية إلا لكي يشاركني القارئ الكريم فرحتي في استكشاف جمال اللغة في هذه الرواية الجميلة ولست هنا للنقد لأني لا أملك أدواته الأكاديمية، وإنَّما كقارئ متذوق لجماليات الأدب أحببت أن أعبر عما تركته هذه الرواية في نفسي.

شكرًا صديقي العزيز محمد الشحري على هذه الأهداء الجميل لقمم سمحان وسفوحه التي تتدحرج عليها دموع "موشكا" منذ بدء الخليقة حتى اليوم.

تعليق عبر الفيس بوك