السكوت عن الباطل لايُبطله..

علي بن مسعود المعشني

تشيع اليوم بيننا كعرب ومُسلمين شعارات غريبة وعجيبة، وتُشكل وعي وقناعات وسلوك السواد الأعظم منِّا ونرددها بوعي وبلا وعي، ومن جملة هذه الشعارات عدم الخوض في الماضي والموروث الفكري والديني والأخير على وجه الخصوص، وهجرهما بزعم الحفاظ على اللحمة الوطنية والإنسجام والوئام بين أطياف الأمةوتضاف عليهما رثاء حال الأمة، ورغبة جامحة في التطور والتقدم واللحاق بركب الأمم المبدعة.

الغريب ليس في مضمون هذه الشعارات البراقة من مفردات وجُمل وجدانية عميقة بل في الدعوة لبناء الحاضر والمستقبل بتجاهل الماضي بغثه وسمينه، مع العلم بأنّ الحاضر هو الوليد الشرعي للماضي والمستقبل هو الوليد الشرعي للحاضر، أي أنّ البناء الحضاري والتاريخي تراكمي، والأمم التي نزعم تطورها وتُشكل قدوة لنا اليوم لم تنهض بالهروب من الماضي لتصنع ماضيًا جديدًا يناسب هواها وتطلعاتها، بل حاكمت ماضيها بكل تجرد وعلم وعقل، وبنت على النتائج بعد ذلك مشروعها النهضوي وفق مايتناسب ومقدراتها ويتناغم مع لغة العصر.

ففي كوريا الجنوبية مثلًا، وبعد أن وضعت الحرب الكورية أوزارها في الخمسينيات من القرن الفارط، وتشكلت القطبية الثنائية في العالم إثر تلك الحرب وانقسم العالم إلى معسكرين شرقي اشتراكي وغربي رأسمالي،انهمك الكوريون في تصميم مستقبلهم بمنطق عصرهم وأدواتهم وممكناتهم، فقرر عقلاء كوريا حينها أن من تسبب بتلك الحرب وجلب الدمار والاحتلال لوطنهم هم جيل الفشل، وأن الجيل الذي يليه سيكون الجيل الأفشل، كنتيجة طبيعية في تناسل الأفكار والمقدرات، لهذا قرر الكوريون التعويل على الجيل الثالث وأطلقوا عليه جيل النجاح، ولم يتوقفوا عند الشعار بل جيشوا كل المقدرات ومنظومات بناء الإنسان الكوري علميًا وذهنيًا ونفسيًا وسلوكيًا وأخلاقيًا لإنتاج جيل قادر على تحمل المسؤولية في بناء كوريا الغد ومنافسة الآخرين بلغة العصر وأدواته.

بطبيعة الحال تطلب هذا المشروع الطموح والجبار، لاستنهاض الشعب الكوري والنهوض بالوطن، مراجعات شاملة لكل الموروث الكوري من عادات وتقاليد وثقافات وصفات سلوكية أو فكرية لاتخدم تلك التطلعات ولا تخرج بالكوري من المحلية إلى العالمية مع احتفاظه بجملة نفيسة من قيمه وثوابته المُصانة.

وقد كانت المفاجأة المذهلة لجيل الفشل الذي قرر ذلك المشروع الطموح، أن من أطلقوا عليه توقعًا بالجيل الأفشل هو من قام ببناء اللبنات الأساسية لكوريا بكل نجابة ومسؤولية ووطنية، فسهلوا كثيرًا على الجيل الثالث المستهدف إضفاء بصمات الخلق والإبداع على تطور بلادهم وترسيخ دعائم ذلك التطور ممزوجًا بالخصوصية والهوية الكورية الواضحة الجلية. فالقائد الفذ الحقيقي ليس من يقوم بمسؤولياته بعبقرية وجدارة منفردًا، بل من يستطيع صنع قادة ممن يقودهم.

وحين قرر الغرب التطور المادي، حاكم كل ماضيه وموروثه الفكري والديني عبر ثورات ثقافية وفكرية ومدارس فلسفية عميقة، أوصلته بالنتيجة إلى مانراه اليوم من توازن مثالي بين الإنسان والتنمية الشاملة بجميع أطوارها وأبعادها وأنواعها.

مشكلتنا نحن اليوم، أننا نريد التطور وولوج المستقبل بكل أدوات الماضي وأفكاره وثقافته، وليس بمحاكمته واستخلاص نفيسه، بل بهجره والسكوت عنه والهرب إلى غيره، من هنا أحاطت بنا كل مظاهر التطور والتخلف معًا، فوفرنا الأدوات من منشآت ووسائل ومناهج وغيرها، ولكننا لم نوفر الإنسان الناقد ذا الفكر المرن الجوال والقادر على فرز الغث من السمين وإعمال العقل والمنطق وصناعة المستقبل بكل جدارة واستحقاق.

قيم التجارة وقيم الثراء

تاجر سريلانكي يمارس نشاط التجارة بالمجوهرات والمعادن الثمينة،زبائنه من فقراء الفلاحين وسكان القرى النائية في سريلانكا، يتقاطرون على شركته في العاصمة كولمبو كل يوم بالعشرات لعرض الأحجار التي عثروا عليها في الأودية والغابات والذي يقرر بخبرته وأمانته مكونات كل حجر من المعادن كالذهب والألماس والبلاتين وغيرها، ثم يوزنها ويُعطي للفلاح قيمتها الحقيقية، وبهذا الصدق والأسلوب الإنساني الراقي، جعل هذا التاجر شركته محج لجميع الفقراء والفلاحين بسريلانكا، وجعلهم موظفون نجباء لديه بلاشعور منهم ولاتعب منه، الغريب في أمر هذا التاجر احترامه الشديد لزبائنهأولئك إلى درجة منحه لمبلغ 300 روبية سريلانكية لكل فقير أو فلاح يكتشف أنّه حمل له حجرًا لايحتوي على أيّ كمية من معدن نفيس، تقديرًا لتعبه وجهده وظروفه المادية وتنقله من أماكن بعيدة، ولتحفيزه على المثابرة والعطاء ولكي لايفقده كزبون أخلص له ذات يوم، ويقول مبتسمًا: كثيرًا ماصادفتني حالات كهذه ولكنهم يأتونني بمعادن نفيسة في مراحل أخرى بفعل جهدهم وتفانيهم وتقديري واحترامي لهم.

من الحلول الذكية

تبين للحكومة السريلانكية أنّ محمية للسلاحف بإحدى الجزر لم تسجل أيّ تكاثر للسلاحف لأكثر من عشرة أعوام، وبالبحث والتقصي علم حاكم الجزيرة أنّ الفقراء والفلاحين بتلك الجزيرة تعودوا سرقة بيض السلاحف وبيعها في الأسواق المحلية بأسعار تفوق مثيلاتها من بيض الدواجن الأخرى، فقرر الحاكم تشكيل فريق تحرٍ من الشرطة المحلية، وأمرهم بتوظيف كل سارق يتم القبض عليه بوظيفة حارس بمحمية السلاحف، وبهذا الأسلوب الذكي، لم ينقض العام الأول حتى تم القضاء على ظاهرة سرقة بيض السلاحف والمتاجرة بها في الجزيرة، وخلال عشرة أعوام تضاعفت أعداد السلاحف بصورة ملفتة.

قبل اللقاء: يروى عن الخليفة عمر بن الخطابرضي الله عنهأنّه سأل والٍ من ولاته قائلًا: ماذا تفعل لوقبضت على سارق؟ فرد الوالي: والله لأقطعن يده يا أمير المؤمنين، فقال الخليفة عمر للوالي: وأنت، والله لولم توفر لهذا السارق أسباب العيش الكريم لأقطعن يدك.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك