نصفُ الكلام

مريم العدوية

الكلام حروف تصافح حروفًا، وكلمات تصطفُ بجوار كلماتِ لسيلِ من الأفكارِ والمشاعر التي تتلاطم بداخلنا. وكلمةُ تلو أخرى تصنع فكرةً وتشكلُ موقفاً وتبني جسراً من الأحداث لصورة شخص الإنسان.

والكلمات كما قيل في الأثر العربي المعروف: "سهام منطلقة" تنطلق بكل حِدة وقوة فتصيب أو تربك لكنها أبداً لا تخيب؛ فاحذر سهامك؛ فإنّك متى أطلقتها لن تعود!

ورغم الكم الهائل من الكلمات التي نثرثر بها طيلة الوقت، إلا أنّ هناك كلمات مسجونة في أغوارنا العميقة، حيثُ في داخلنا كهوف مهجورة وموحشة مليئة بالكلماتِ النائمة كصورة قيلولة الخفافيش في النهار، إنّها فقط تنتظر ليلاً أسودَ حالكاً، شيئاً ما قد يكون حدثاً أو كلمة قادرة على استفزاز كل ذلك الكم الهائل منها ومن ثم ستنطلق حينها بهيجان عنيف، بارقة وراعدة بسيل جارف ومدمر لكل ما قد يقابلها. إنّ للكلمات قوة رهيبة؛ فهي قادرة على إحياء ميت بل وإماتة حي! كيف لا وهي تسدد ضرباتها بقوة و وضوح على أهدافها، وكم أحبطت عزائم كبارا وفي المقابل كم أعادت الروح لأجساد كانت على حافة الهاوية؟

من منّا ينكر أنّ نصف الكلام في داخله مسجون، وأنّ جيشاً خميساً من الأشياء يحول بينه وبين الانطلاق به، إننا لا نفتأ نراوغ في أحاديثنا بالسلام الاعتيادي والعبارات البديهية في الرد أو السؤال مزدرين الكلمات المقيدة بداخلنا والتي تصارع من أجل فرصة الهروب.

وعندما تفشل كل محاولات الكلمات تلك، فإنّها لا تجد سبيلاً غير الاحتيال للخروج بطريقة أخرى غير الصوت!

فتخرج بهيئات عدة ومنها: المواقف التي تحرك المرء من غير حول منه ولا قوة تجاه الكثير من الأفعال، وهي كذلك تصبح وميضاً ما تتحدثُ به العيون بل وإماءات الوجه وملامحنا التي تأبى إلا وأن تتحدث عنّا أكثر مما نفعل. إنّ الكلمات هي الحل الأمثل للكينونة البشريّة لحمايتها من الانفجار أو عطب الروح، ولذا فإن سُبل حماية الكلمات المقيدة من الهروب أو الانتفاضة عديدة؛ فللبوح نوافذ كثيرة وكلها تهدف إلى نفسِ أكثر استقراراً وصحة.

فالرسم والنحت والموسيقى والعديد من الأعمال والنوافذ في الحياة جديرة بالبوح المتزن الذي يواسي النفس فيما تكتنزه من مشاعر وهواجس، وهو كذلك من ناحية أخرى يرقى بتلك الكلمات السوداء المقيدة بداخلنا لتكون فناً قادراً على التعبير ومشاركة الآخر دون أن تخدش فينا كرامة الكتمان والصمت، فما أروعها!

وعلى سجادة الصلاة لا كلمات مسجونة، فرب الكلمات أعلم بالكلمات منّا، وخير من يسمعنا ويربت على قلوبنا ويهدأ من روعنا ويرزقنا طمأنينة لا تفارقنا بل وتعيننا على نصب الحياة وثقلها. فما أشد غرابتنا عندما نتجاهل ما نملك على سجادة الصلاة من بلسم ودواء ونبحث عنه في ثرثرتنا مع الآخرين الذين لا يملكون لهم ولا لنا شيئاً سوى إصغاء عابر وناقص!

وبالكلمات تعقد ضفائر الدرر الشعرية والقصص والحوادث والتاريخ وتبقى في سطور الكتب، محفوظة لقارئ سيأتي يوما ويصافحها ويأخذ منها نصيبهُ من حياة ما.

وثمة كلمات تنفض أمّة وتوقظ نهضة وتحيي أملاً وتزرع شجرة، لكنها رغم كل تلك الفضائل التي تملكها قد تبقى رهينة القلب والروح، إذا لم تُمنح الزيت الذي يدفع بها للجماهير، ألا وهو الدافع الكبير الذي لا ينفك يُبقي فينا أملاً لحياة أفضل.

أعطني كلمة تزرع شجرة، يستظل بها غريب ويأكل منها طير وتريح نظر صديق، وسأعطيك كلمة مرسومة على وجه محب، ابتسامة صادقة تلامس القلب والنفس.

وبعض الكلمات وإن جاءت مبتورة أو مبهمة فإنها تبقى كالشهد الذي يصب في آذاننا فيصيب عقولنا بلذة السكر؛ تماما كتمتمات الأطفال وأولى تجاربهم في البوح. إن حروفهم الصغيرة وكلماتهم البسيطة قادرة دائماً على بعث الكثير من الحياة فينا بفضل ما تملكه من طاقة وحياة.

وإننا اليوم أحوج ما نكون لديمة باردة من الكلمات الجميلة التي تعيد الاخضرار لحياتنا بعد اليباس الذي عشناه جراء عاصفة من الكلمات القاسية التي اغتالت أيامنا، لقد سئمنا بحق من كلمات اقتلعت كل براعم الأمل والحياة من مستقبلنا بل وباتت تهدد سماءنا وتتوعد بالمزيد من الشقاء.

وهذه دعوة لنكون أكثر كرما في منح أحبائنا الكلمات اللطيفة والجميلة التي لها لون ورائحة وأثر لا يغيب عنهم، عله يساعدهم في إكمال رحلة الحياة ويواسي طريقهم.

تعليق عبر الفيس بوك