سحر الكاميرا

ناصر محمد

ربما كان العام 1985م عاما فاصلا بين زمنين في تاريخ الكاميرا، فقد انتشرت صورة مؤثرة جدا حول العالم التُقطت من قلب حدث بركان" نيفادو دلوريز" في كولومبيا في ذات العام، وكانت الصورة للطفلة "اوميرا سنشيز" وهي عالقة لمدة ثلاثة أيام في المياه والأسمنت الناتج من الانفجار البركاني دون أن يستطيع فريق الانقاذ مساعدتها، مما أدى إلى وفاتها بعد أن اقتنصتها عدسة أحد المصورين وهي تحدق فيه بحزن. ولقد واجه المصور انتقادات كثيرة منها عدم الإنسانية في استغلال حالة الطفلة وهي تحتضر، لتدخل الكاميرا عالما جديدا ذا نكهة ميكيافيللية: الغاية وهي الشهرة تبرر الوسيلة وهي التقاط المعاناة!

بعد هذه الحادثة بثمانية أعوام، انتشرت صورة للمصور الجنوب الإفريقي "كيفن كارتر" عام 1993م يظهر فيها طفل من السودان يزحف نحو معسكر الأمم المتحدة لإنقاذ حياته من المجاعة، ويتعقبه نسر على بعد أمتار ينتظر الجثة أن تفارقها الروح حتى يلتهم طعامه. وبدون معرفة مصير الطفل فاز المصور بجائزة بولتيزر العالمية، وواجه أيضا أسئلة حول استطاعته أن يلتقط صورة لمثل هذه الحالة دون أن يرمي الكاميرا ويهب لمساعدة الطفل بدلا من التفكير بسحر الكاميرا المفضي إلى الشهرة!. انتحر المصور عام 1994 بعد أن أشارت الكثير من الدلائل على تأثير الصورة عليه وعن موقع ضميره الإنساني في تلك الحالة.

يشير الروائي التشيكي ميلان كونديرا في رواياته كثيرا إلى سحر الكاميرا على الإنسان، ويعزو ذلك إلى ظهور جمهور جديد يوصف بالجمهور اللامرئي الذي هو نتاج الحداثة والمؤسسات، فالجمهور اللامرئي أقوى تأثيرًا وجذبًا على المرء من الجمهور المرئي لأنّه جمهور مفترض غير محدد ويتحد مع الأنا بطريقة مباشرة. وترجع جذور هذه الفرضية إلى عالم النفس اللغوي "جاك لاكان" في ذكره لمرحلة "المرآة" التي يمر به الطفل في بداية نموه، حيث يتعرف فيها الطفل لأول مرة من خلال المرآة على ذاته وأناه ويتماهى معها ويسقطها على الواقع بطريقة مشوهة. وكما أن العلامة انفصلت عن الشيء في عالم اللغة عند السويسري سوسور، انفصلت الأنا عن الواقع عن طريق المرآة اللاكانية، لتنفصل عدسة الكاميرا عن غايات الإنسان السامية وتجعل وظيفتها استعراض براعة المصور في التقاط المعاناة بغية عرضها في متحف أو مجلة.

في بداية الألفية الجديدة، ظهرت عدسة الكاميرا بمظهر جديد من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، منافسة بذلك وسائل الإعلام الكلاسيكية المكتوب منها والمقروء. فبدلا من احتكار وسائل الإعلام من قبل السلطة صارت هذه الوسائل في متناول الجميع محققة بالتالي معنى ذلك المفهوم الذي طرحه عالم نفس الجماهير الفرنسي غوستاف لوبون وهو "عصر الجماهير". ولأول مرة صار صوت الإنسان العادي ينتشر في جميع أنحاء العالم دون وسيط رقابي سلطوي، ولكن بنفس الوقت دون رقيب موضوعي يصون الأنا من التضخم والتنرجس. فالملاحظ أنّ العلاقات الكلاسيكية القائمة بين المؤلف والمتلقي والفنان والمتذوق تضاءلت لمستوى يلغي هذه المسافة نهائيا مستقبلا، فبسبب هذه الوسائل البديلة صارت الغالبية تلعب دور المؤلف والفنان وذلك بعرض كل شيء على الجمهور غير المرئي رغبة في حصد الإعجاب غير الموضوعي. يقول" عزمي بشارة" في مقاله " منجم اللاوعي الممتلئ ذاتيا": لكنهم لا ينتبهون، ربما، إلى حقيقة أنّهم أصبحوا، بالتدريج، أكثر استعراضية، أي أكثر رغبة بالجهر في شؤونهم الخاصة، والتعبير عن مكنون النفوس لإثارة اهتمام الآخرين بصورة أو مشهد أو طرفة أو موقف غريب، كما أنّ وجود جمهور صغير من القراء يزيد من النزعة إلى التنافس، للحصول على اعتراف من الآخر (لايك). ولهذا، يُصدم كثيرون مما يقرأون على شبكات التواصل الاجتماعي لأشخاص عرفوهم في الماضي، ولم يعرفوا عنهم هذه الميول الاستعراضية، أو الأفكار المتطرفة، أو الصياغات التي تستدر العطف والانتباه. فعالم التكنولوجيا الرقمية لا يُقصي دوافع الإنسان الأصلية الدفينة، بل يقوم عليها ويضخمها. ومن أهمها الدافع للحصول على اعتراف الآخرين وتقديرهم.

ومن سحر كاميرا القرن الواحد والعشرين قدرتها على فصل مشاعر الإنسان عن الواقع وتذليلها لخدمة الأنا، فكم من مشاعر وعواطف تباع في وسائل التواصل الاجتماعي وذلك رغبة لنيل إعجاب الجمهور غير المرئي مثل استغلال حادثة وفاة أحد المشاهير أو أحد أقارب المستخدم نفسه وطرحه مباشرة على وسائل التواصل والتنافس على السبق عليه في حين أن الإنسان في الزمن الكلاسيكي لم يكن يأبه للاستعراض عند جريان دموعه الحارة!.

ومن خلال دعوات موت المؤلف وموت الناقد أمام جبروت المتلقي، يصرح الفيلسوف اللغوي والروائي الإيطالي "امبرتو ايكو" في مجلة لاستمبا الايطالية بكلمات قد تهدد مؤلفاته التي كانت دائما في جانب المتلقي مثل "الأثر المفتوح" و "القارئ في الحكاية" حين يقول عن وسائل التواصل الاجتماعي: إن أدوات مثل تويتر وفيسبوك «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فوراً. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء».

تعليق عبر الفيس بوك