حق النفاق.. الاختلاف في مجتمعات اللاتعدد

فيصل الحضرمي

"الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية"، و مع ذلك فإن بإمكان اختلاف واحدٍ ضئيل الأهمية، إذا ما نظر إليه في ذاته، أن يصنع من واقع صاحب الاختلاف منفى لا يستطيع مفارقته البتة، وأن يحيل حياته التي كانت هانئة من قبل، جحيماً بإصدار أرضي. "الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية" مقولة صحيحة باعتبار ما يراد له أن يكون، لا باعتبار ما هو كائن، خصوصاً في مجتمعات الانغلاق أمام الآخر.

هناك نوعان رئيسيان من الاختلاف: اختلاف بالفطرة، واختلاف بالاكتساب. الاختلاف بالفطرة، أو الاختلاف الوراثي، هو أكثر من مجرد حق. إنّه حقيقة. حقيقة تفقأ الأعين بانكشافها "الوقح". فالمرء في هذه الحالة يولد مختلفاً في شكله أو لونه أو لغته أو ميوله الجنسية، ويعيش بالتالي بموجب المحددات التي يفرضها هذا الاختلاف. إن حقيقته هذه تميزه عن بقية أقرانه، وتجعل الإشارة إليه بالبنان عملية سهلة. لا لرفع قيمته و الإشادة به، بل للحط منه والنيل من حقوقه ومزاياه. والواقع أن اختلافه، أو اختلافاته، عن مجايليه، لا يمكن إلا أن تترك أثراً على نظام حياته، وكيفية ممارسته لوجوده. وهذا النوع من الاختلافات، برغم كونه فطرياً لا يد للإنسان فيه، هو المسبب الأبرز لمعظم أنواع التمييز العنصري الذي وقع ويقع ضحيته ملايين من البشر في كل شبر من وجه المعمورة الكالح.

فهناك أولاً تمييز اللون الذي أحال قارة بأكملها إلى منجم لتصدير "العبيد" إلى الأسياد البيض والملونين من أبناء القارات الأخرى، الذين منحهم لونهم الفاتح شعوراً زائفاً بالتفوق والعلوية. وهناك ثانياً تمييز اللغة الذي جعل من لغات الأديان السماوية، لغات سماوية أرقى من نظيراتها، و جعل من لغات الأكثرية، اللغات الرسمية التي يتوجب على الأقليات الأخرى تعلمها وتوظيفها مع ما يلحق باللغات الأم من إهمال أو اندثار في الحالات الأكثر تطرفاً. وهناك أخيراً تمييز الميول الجنسية الذي فرض نظريته القديمة القائلة بعدم وجود أكثر من نوعين سليمين من الميول في مقابل بقية الميولات المرضية أو الشريرة التي لا يمكن لحال المجتمع أن "يصلح" إلا إذا تم اجتثاثها من أصولها.

المختلفون من هذا القبيل يسمون "الجنس الثالث" في مبادرة واضحة لإقصائهم عن الجنس الذي ينتمون إليه بيولوجياً. وهي محاولة نجحت في مساعيها على مدار القرون المنصرمة، غير أنّها الآن تترنح أمام التحولات التي تشهدها الدول الغربية في هذا المجال، وآخرها التشريع المثير للجدل في كافة الولايات الأمريكية بمنح المثليين الحق في التزاوج فيما بينهم أسوة ببقية الأفراد "الطبيعيين". وهو حق تراه معظم المجتمعات الأخرى باطلاً كونه لا يتوافق مع الفطرة السليمة حسبما يتصورونها.

بل إنّ أفراداً عديدين ينتمون لنفس المجتمعات التي شرعت لمثل هذا الحق يقفون في الخندق المعارض لمثل هذه المساواة، كما هو الحال مع قضاة فرنسيين، أعلنوا رفضهم لقانون مماثل تم إقراره قبل عامين، وتعهدوا بعدم عقد قران أي زواج بين مثليين، معرضين أنفسهم لغرامات وعقوبات صارمة، وكما هو الحال أيضاً مع الكاتب وهاوي جمع الأسلحة الفرنسي اليميني المتطرف دومينيك فينير، الذي قرر اختتام حياته الطافحة بكراهية الأجانب والشواذ، بالانتحار أمام كاتدرائية نوتردام احتجاجاً على القانون المذكور في حادثة مروعة شهدها أكثر من 1500 شخص من زوار الكاتدرائية الشهيرة.

أمّاالنوع الرئيسي الثاني من الاختلافات، أي الاختلاف المكتسب، فهو اختلافيجد الإنسان نفسه موشوماً به فجأة دون سابق إنذار، كالاختلاف في الرأي، أو السلوك، أو طريقة التفكير، أو المعتقد. والأصل في الاختلاف في المعتقد أن يكون موروثاً اجتماعياً، لا أن يكون مكتسباً. ولكنه في حالات عديدة يكون طارئاً يكتسبه المرء بطريقة فردية مستقلة، أو بشكل جماعي كما هو الحال في عمليات التبشير التي يعتنق الأشخاص من خلالها ديناً جديداً عن دين آبائهم. والنوع الثاني الجماعي أقل شأناً، وأهون خطراً من النوع الفردي كونه يحظى بمباركة الجماعة، و قي صاحبه بالتالي من لعنة "الأكثرية" التي استحقها بمروقه المشين. والاختلاف المكتسب لا يقل خطورة عن الاختلاف الوراثي، وإن كان يتيح للإنسان المختلف مساحة أكبر للمناورة عبر التمظهر المخادع وادعاء التماهي مع الذوق العام ونمط التفكير السائد.

النفاق المقصود في مقالتنا هذه هو هذا النوع من الادعاء. أي انتحال شخصية أخرى غير الأصلية بغية اتقاء شر الجماعة. والذين يحبذون لفظة النفاق على لفظة الادعاء هم أنفسهم القابضون على سيف "الحقيقة" يقطعون به رؤوس المخالفين، وهي لفظة ذات مدلول ديني صارخ يعكس العقلية التي يفكر بها معادو التفكير الذين يطالبون خصومهم بخلع الأقنعة والتحلي "بالشجاعة" الكافية لإلقاء النفس في التهلكة، وتسليم الروح لغير بارئها بانتحار مجاني.

إن للاختلاف في بعض المجتمعاتثمناً يصل حد القتل. فحالات الإعدام والاغتيالات التي ترتكب في حق المختلفين جنسياً، أو فكرياً، أو غيرها، لا يحدها حصر. ففي العراق مثلاً، تقوم الميليشيات المسلحة بتصفية المثليين عن طريق استدراجهم عبر المواقع الإلكترونية إلى مواعيد كاذبة تتكشف عن كمائن يتم فيها اعتقالهم و "استتابتهم"، على حد قول أحد المجندين لهذه العمليات، قبل القيام بقتلهم بدم بارد كالثلج. وحسب إحصائية نشرتها جريدة الأوبزيرفر البريطانية، فإنّ عدد المثليين الذين قتلتهم الميليشيات منذ عام 2004، أي في أعقاب سقوط بغداد وحتى عام 2009 بلغ 688 شخصاً، و من بين هؤلاء من تمّ التمثيل بجثته وقطع أجزائه التناسلية، ربما إمعاناً في تعذيب والديه و ذويه. ومن بين أشهر الأمثلة على الاغتيالات الفكرية التي تضع حداً للاختلاف بحد السيف (يقيناً لأن الفكر مثلوم) مثال الكاتب المصري فرج فودة، الذي اغتيل سنة 1992 بسبب موقفه من "الدولة الدينية".

تعليق عبر الفيس بوك