حَمَد الخروصي.. رحيلٌ بلا ميعاد

سُلطان الخرُوْصِي

ما أصعب تلك اللحظات المفجعة التي تسرق سهاد الطمأنينة والهدوء من قلبٍ يغدق الوطن قنطار تلو آخر بين الغزل والمدح والوطنية وعتاب النفس ودماثة الخلق وشذر من اللطائف والبسمة؛ مما أثقل ذلك الحمل الذي يلقيه القدر على قلوب وجلة عذراء لا تفقه من مملكة الموت وفلسفتها قيد أنملة من القساوة والغلظة، بين غمضة عين وانتباهتها يذبل سحر الجمال والبهاء ليشتعل رأس الولدان شيباً؛ فيسدل على نعومة السعادة أطناناً من الشحب والبؤس المرير، يعجز قلمي المكلوم اليوم عن نسج ملحمة عندليب القصيد الذي توشَّحت بزهره الفواح عمان من أقصاها إلى أقصاها، تخطفه الموت في غمرة الحب والسعادة بين أحضان الثقافة والحضارة دون أن يطرق ربيعه الأربعين، فلا عزاء لعمان وسكانها الطيبون إلا الإيمان الصادق بحق قضى الله وقدره.

"الشعر هو السفر الذي يطوي الطريق المار في وسط غابات الحياة المظلمة، وهو عمود النور الهابط من شمس الأمل، هو الطفل الذي يتمرجح بلا أغصان ويلعب بماء النهر، هو الحلم الذي لا يتكرر مرتين، هو الهواء الذي لا نستطيع القبض عليه ولا نستطيع العيش بدونه، نحبه حينما يتمرد علينا، ويدهشنا حينما يثور ويغضب ويحطم أنخاب الوهم، وننزعج منه حينما يكون بسيطا وطيبا وساذجا".. كلمات توحي بوزن قلم رصين وحصيف حينما سُئل ما الذي يعنيه الشعر لحمد الخروصي؟ ألف بساطته وسماحته وكرمه وخلقه النبيل كثيرٌ من عاشقيه في عمان والخليج العربي وبلاد شتى، تغنى كثيرا في بحور الشعر وأطرب محبيه وحاقديه بنبراته الرخيمة، وأوزانه السجية، ومفرداته العذبة، تأبَّطت عليه شرًّا بعض الأيادي لتلقيه في غياهب التهمة بالخيانة والنذالة، لكنه كان عصيًّا في أن يمضغ لحمه الطاهر بدناءة المال وشراء الذمم، صدح بأعلى صوته أن عمان طاهرة بمخلصيها وقائدها الهمام، أنشد مداده هيام عاشقيه لينثروه دمعاً وحُبًّا على روضة قبره الطاهر:

((حمـامة الجنة تعود

فاقدة سرب الأهل

سافروا خلف الحدود

يوم ما حان الأجل

عيونها حزن وصمود

بالله وعمان الأمل)).

دافع عندليب القصيد عن وطنه الطاهر وحارب مواطن الفساد التي غرسها في نفوس أبناء الوطن القائد الوالد حفظه الله، وحينما زج به بين القضبان وقبل أن تأتي براءته من سيد العدل وصاحب الرأي الحكيم حضرة صاحب الجلالة حفظه الله ورعاه، تدفق القصيد بين جوانح شاعر مجروح مكلوم؛ فشدا القلم قولا عميقاً جاء فيه:

((شبيهك يالوطن هذي الوجوه النابتة بالسمر

شبيهك يالوطن هذي القصائد قهوة الغربة

شبيهك يالوطن أمي العزيزة وإخوتي والفقر

شبيهك بيتنا المركون والحارة على دربه

كتبنا والوجع طين الضلوع اللي حناها الحبر

رضعنا والألم ثدي الجروح وماتت الرغبة

هنا والموت أحلام وصبايا واغتصاب الشعر

هنا والموت تفاحة صلاة وجوع أشعر به

شبيهك يالوطن وش هو شبيهك غير هذا الكفر؟

وأنا المنفاي بترابك وأنا المسجون بالرهبة

نعم علقتك بغرفة حصاري والجدار القبر

سنين وبيني وبينك يحول الخوف والتربة

يا أمي والوطن حزمة دروب وطعنة في الظهر

يا أمي والغياب اللي نبش قبري قبل ربه

يا أمي والذهاب اللي كسر فيني زجاجة عطر

يا أمي والوطن يا مبعده عني.. ويا قربه

يا أمي وأصدقاي اللي دفنت إبملح هذا البحر

يا أمي وأصدقاي إشكثرهم.. يا قلهم صحبة!

يا أمي والغياب أبن الرحيل السرمدي للطهر

يا أمي والوطن أطلق عنان الريح مع سربه

تذكرت الوطن وأمي الحزينة وبيتنا والفقر

تذكر يالوطن ليل الحصار بغرفة الغربة)).

لَمْ ينسَ حَمَد الخروصي -رحمه الله- ألمَه المدفون وجرحه النازف بفقد أخيه "حمود"، إثر حادث سير لينسدل تبر الشعر حزناً وألماً.. فيشدوا:

((اليوم رابع يوم للفقد يا حمود

والحال يعلم فيه يا أخوي ربك

يا بعد عمري إنت يا ليتك تعود

ما زال مسجدنا يراقب لدربك

ماني مصدق كيف ما عدت موجود

يعني محال ألقاك وأجلس بجنبك

ودي أشوفك نور في أيامي السود

وأهمس في أذنك يا حبيبي: أحبك

يا دعوة إخوانك وأنا أخوهم العود

يكون قبرك واسع مثل قلبك

ويفوح منه الورد ومعتق العود

الشمس مصباحك رضى الله سحبك

والله يجمعنا معك -مشط بارود-

وقبورنا يا أخوي شرقك وغربك

تحكي لنا عن جنة الخلد يا حمود

دامك سبقت الكل وأخترت ربك)).

كم سيفتقدك القصيد ويبكيك القلم يا حمد، نحن بحاجة لأن نشنف آذاننا لشدو نبراتك المخلصة وعذوبة خواطرك الصادقة، رحلت بلا ميعاد وكنت تتلقف الموت من كل حدب وصوب فلا يأتيك، دخلت قلوباً لم تعرفك، وألفتك وجوه لم تبصرك، رحم الله روحك النقية، وأسدل على جسدك الطاهر فيضاً من أنهار الرحمة والمغفرة، نم بسلام فستذكرك الأقلام بعظيم قولك ونبيل خلقك وتحتضنك قلوب المخلصين برونقها الإنساني الزاهي.. وإنا لله وإنا إليه راجعون....!

sultankamis@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك