جويس باندا.. امرأة إفريقيا الحديدية

ناصر أبو عون

Nasser_oon@yahoo.com

ماذا تفعل عندما تنساق بيد القدر إلى سُدّة رئاسة دولة أكثر من 65% من سكانها تحت خط الفقر ويعيش معظم سكانها بأقل من 1.25 دولار يوميا، و40% من ميزانية الدولة يأتي من مساعدات ومعونات خارجية؟ إنّ حكاية جويس باندا تؤكد أنّ (الرجولة) صفة لا علاقة لها بـ(الذكورة)؛ فقد استطاعت برغم حداثة عهدها برئاسة (جمهورية مالاوي) وقبل أن تتجاوز مدة عام واحد في سُدّة الحكم دخول قائمة مجلة فورين بوليسي الأمريكية لأهم 100 شخصية في العالم واكتسبت احترام أغلب زعماء الدول الإفريقية والأوروبية ولقبت بالمرأة الحديدية التي أصبحت وجه التغيير للأفضل في القلب الدافئ لإفريقيا. وتعد جويس باندا أول امرأة تتولى الرئاسة في جمهورية مالاوي بالإضافة لكونها ثاني امرأة تتولى رئاسة بلد إفريقي بعد التجربة الفريدة لنظيرتها إيلين جونسون سيرليف، وثالث شخصية نسائية قوية بالقارة بعد سيرليف، و نغوزي أوكونغو آيويلا وزيرة المالية النيجيرية امرأة إفريقيا الحديدية. وقالت باندا في كلمة قصيرة بعد مراسم أداء اليمين في البرلمان، إنها ستعقد اجتماعا لمجلس الوزراء، ودعت شعب مالاوي إلى التمسك بالوحدة.

في 9 أبريل 2012، وتحديدا بعد توليها الرئاسة بيومين، قررت باندا إقالة قائد الشرطة بيتر موخيتو الذي قتل رجاله 19 شخصا خلال أعمال الشغب المعادية للحكومة المالية في 11 يوليو 2011. وكان موخيو معينا من قبل الرئيس السابق موثاريكا.

لقد بدأت جويس باندا حياتها السياسية مبكرا بتأسيس جمعية عام 1999تحت مسمى (من أجل تحرير النساء) وركزت نشاطها في (تعليم الفتيات) وبعد فوزها في الانتخابات البرلمانية اختارها الرئيس بينحو وا موثاريكا وزيرة للمساواة والعدالة بين الجنسين عام 2004م. وتوالت نجاحاتها، والتي برزت أكثر مع توليها منصب وزارة الخارجية، وكان أقوى قراراتها قطع العلاقات مع تايوان، وهو ما أدي لتدفق المساعدات والمنح من الصين لبلدها ودعم البنية الأساسية لها وتطوير العديد من المشروعات الاقتصادية.

وبعد خمس سنوات من الإنجازات ترشحت باندا لمنصب (نائب رئيس الجمهورية) ثم بدأت مرحلة الاصطدام مع الرئيس الذي قرر التخلي عن المبادئ الديمقراطية، وترشيح أخيه لمنصب رئيس الجمهورية بالتوريث وعلى إثر هذا الصدام حاول موثاريكا إقالتها بقرار من المحكمة العليا ولكنّه فشل فتمّ طردها من عضوية "الحزب الديمقراطي التقدمي"، فانتقلت بعد هذا الصدام مباشرةً إلى صفوف المعارضة، وواصلت نضالها وبعد وفاة الرئيس موثاريكا 76 عاماً بسكتة قلبية ، خاضت باندا معركتها الحقيقية الأولى ضد عائلته التي حاولت اغتصاب السلطة، وتمرير مقعد الرئاسة إلى شقيقه، فتقدمت الصفوف بحزم للسيطرة على القصر الرئاسي مدعومة من قوات الجيش الذي أعلنها عبر الإذاعة المالاوية رئيسة للبلاد حتى موعد انتخابات 2014

تسلمت جويس باندا رئاسة الدولة وهي على شفير الإفلاس، وترزح تحت نير المجاعة والفقر، والمرض وفرضت على نفسها قبل الشعب سياسات تقشفية صارمة لإنقاذ البلاد من الضائقة الاقتصادية الخانقة وإنقاذ أكثر من مليون مواطن مالاوي من الجوع؛ فبدأت بنفسها فخفَّضت راتبها بنسبة 30 % الذي لم يتخط حاجز الـ 500 دولار، وباعت 35 سيارة مرسيدس يستخدمها أفراد حكومتها. وألغت حوافز، ومخصصات كثيرة كانت مرصودة للوزراء الكبار مع إن الرئيس والمسؤولين في ملاوي لا يتمتعون بامتيازات ومخصصات استثنائية، ولا يملكون عقارات واسعة ولا ثروات طائلة ولا شركات ومصارف وأساطيل نقل وأسهم في شركات عالمية مثل ما نشاهد في الدول الأخرى.

وأقدمت باندا على خطوة أخرى جريئة فأصدرت أوامرها بتخفيض عدد البعثات الدبلوماسية إلى الحد الأدنى واقتطعت من المخصصات المالية للقنصليات والسفارات الدبلوماسية وقلَّصت عدد موظفي الخارجية داخل وخارج مالاوي، واتخذت قرارا عُدّ من المجازفات على الصعيد الأمني حيث قررت هي وجميع المسؤولين السفر عبر الدرجة السياحية بعد أن باعت الطائرة الرئاسية من طراز "داسو فالكون 900 إي.إكس" والتي تسع 14 راكبا عام 2009 بمبلغ 15 مليون دولار والتي اشترتها حكومة الرئيس الراحل بينجو وان موثاريكا مما أغضب عدة دول غربية تقوم بمنح مالاوي مساعدات تمثل نحو 40% من ميزانيتها. وعن سبب إقدام الرئيسة باندا على بيع الطائرة الرئاسية الوحيدة لدى الدولة قال المتحدث باسم وزارة المالية في مالاوي نيشنز مسويا: (مبلغ الخمسة عشر مليون دولار الذي حصلنا عليه من بيع طائرة الرئاسة، سيستخدم محليا في شراء ذرة للمساعدة في إطعام حشود تعاني وسيخصص جزء من هذا المبلغ لإنتاج البقول. لإطعام مليون جائع). من أفراد شعبها الذي يعاني الفقر كون جمهورية ملاوي من الدول الإفريقية التي تعتمد على حقول الزراعة فقط ولا تمتلك ثروات معدنية ولا إنتاج صناعي.

وعندما سألها مراسل All Africa Malawi: لماذا قررتِ بيع الطائرة الرئاسية تحديدا؟ قالت: (بالبلاد جوعى وصيانة الطائرة والتأمين عليها يكلفنا 300 ألف دولار سنويا)، (كما إنّ المسافرين على الدرجة السياحية والمسافرين على الدرجة الأولى جميعهم يصلون المحطة نفسها وفي التوقيت نفسه. فضلا عن متعة الرفقة في السفر).

وتعرضت إلى هزة أفقدتها ثقة الناخبين لبعض الوقت عندما قبلت بشروط البنك الدولي، وصندوق النقد والمؤسسات المالية العالمية وحاولت إجراء تعديلات اقتصادية أدت إلى انخفاض (الكواشا) عملة مالاوي الوطنية في مقابل الدولار وهو ما أدى مع تدني حجم الصادرات للبلاد إلى اندلاع أعمال عنف قوية بالبلاد منذ نحو 3 أعوام حيث خرج الشعب إلى الشوارع للاعتراض على سياساتها، ولكن سرعان ما تداركت باندا الأمور وتفاهم المواطنون للفخ الذي نصبته مؤسسات التمويل والقروض الدولية والذي كاد أن يذهب للبلاد إلى حالة من الفوضى ولولا نهجها الديمقراطي وإرسائها لمبادئ العدالة الاجتماعية لحدث ما لم يحمد عقباه.

بلغت باندا اليوم عمرا ناهز 63 عاما وهي التي ولدت في 12 أبريل/نيسان 1952 في قرية ماليميا بمقاطعة زومبا جنوبي مالاوي، وكان والدها عازفا في فرقة موسيقى الشرطة، وكانت الوحيدة بين أشقائها التي أكملت تعليمها الجامعي. وكانت تدبر نفقاتها عن طريق العمل الشاق ولساعات طويلة في المزارع، وبعد سنوات من الشقاء حصلت على بكالوريوس التربية تخصص (رياض الأطفال) من جامعة كولومبوس، وبعده (دبلوم إدارة الأعمال) من إيطاليا.

لقد التحقت جويس للعمل في مطلع حياتها بوظيفة منسقة في إحدى الدوائر الحكومية وعندما بلغت الخامسة والعشرين عاما أقامت مع أطفالها الثلاثة بالعاصمة الكينية نيروبي، وانخرطت في (الحركة النسوية) هناك و(خلعت زوجها الأول) بعد أن تحملت برفقته سنوات طويلة من العنف والقهر الزوجي، وكان الاعتداء اللفظي والبدني عليها طقساً يومياً، اعتاده زوجها وقد تحملت منه الكثير، رغبة منها في الحفاظ على حقوق أطفالها الثلاثة، حتى طفح الكيل وقررت وضع نهاية لمأساتها وتحررت بالطلاق نهاية الثمانينيات ثم تزوجت بعده ريتشارد باندا رئيس المحكمة العليا وهو أول رئيس أسود يجلس على منصة القضاء ويتولى رئاسة المحكمة في مالاوي وعمل بمنصب مدير المنتخب الوطني لكرة القدم.

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك